إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 8 نوفمبر 2010





مقدمه

بقلم د / محمد فؤاد منصور
أحبك .. ولن أكتفي .. رواية المبدع أشرف نبوي تشدك من الحرف الأول ، برومانسيتها الناعمة وأحداثها المتلاحقة التي تحملك على أجنحة الحب ،فتعيش مع شخوصها وقتًا ممتعاً .. تفرح حين يفرحون ، وتتألم حين يتألمون .
وكما عودنا أشرف نبوي في كتاباته أن يسرقنا من أنفسنا لنتماهى مع أبطاله.
لا شك أن أجمل الروايات هي تلك التي يعزف فيها الخيال على أوتار الواقع ، ونحن هنا بإزاء عمل لم يستطع أن يبتعد كثيراً عن حياة الكاتب فيما أظن ، فاختيار البطل لم يكن محض صدفة ، ولعلي لاحظت منذ الأسطر الأولى أن أكرم فوزي ليس بعيداً عن أشرف نبوي ، فكلاهما يبدأ اسمه بأول الأبجدية وينتهي بآخرها ، ولم يكن ذلك اختياراً عشوائياً وإنما أظنه مقصوداً لذاته فالقواسم التي تجمع الكاتب ببطله تطل علينا في كل سطر خطه ، بل وأحياناً من بين السطور فكلاهما كاتب ، وكلاهما سكندري الهوى والهوية .. إن إنتاج عمل رومانسي بهذه النعومة يجذب القارئ الذي تحيط به ظروف الحياة القاسية ومفرداتها الخشنة ، يجيء في وقته تماماً ليعيد إنعاش قلوبنا المتعطشة إلى الحب ..
أتمنى أن يجد القارئ المتعطش إلى عودة الزمن الجميل ضالته في سطور أشرف نبوي الجديدة المتجددة .






الفصل الأول

تدافعت الجموع في فوضى حين زمجر القطار بصوته وبدأ صليل حلقاته الصدئة في إصدار صفير يصم الآذان ، هواء الفجر المنعش الذي كان يلاطف الأوجه ويعبث بشعر الحسناوات اللواتي كن قد احتللن معظم كراسي القطار الخشبية وجلسن مستعدات لبدء جلسة النميمة الصباحية التي لا تتوقف إلا عند محطات قطار الضواحي السبع والذي كان يقطع المدينة في رحلته فيما يقارب الساعتين .
بعض النسوة الريفيات اللواتي كن يحملن بعض خير قراهن لبيعه في المدينة ويحضرن مع قطار الصحافة باكراً كن يجاهدن ليلحقن بتلك الرحلة الصباحية الأولى ليتمركزن في أسواق المدينة من ساعات الصباح الأولى علي أمل أن ينجحن في بيع ما لديهن والعودة إلى قراهن بسرعة .
المشهد المعاد يومياً بضجيجه وصوت صافرة ناظر المحطة المختلط بغوغائية الحشود التي تصارع الحياة في سعيها لجلب لقمة العيش مع أصوات الباعة الجائلين وباعة الجرائد المنتشرين كوباء فر من عقاله ، ثم السكون الذي يعقب رحيل القطار والذي لا يدوم أكثر من عشرين دقيقة تبدأ بعدها وتيرة الأصوات في الارتفاع التدريجي حتي لا يعد بالإمكان تمييز أي صوت.
من كافتريا المحطة كنت أجلس مستمتعا بهذا العرض السريالي كلما لاحت لي فرصة سفر تبعا لعملي ، والذي كان يؤمن لي تذكرة في القطار الفاخر المكيف الذي كان موعده بعد هذا العرض بأكثر من ساعتين ، إلا أنني كنت أحرص دوما على الحضور مبكرا لأستمتع بهذا المشهد المتكرر في انتظام عجيب ، وكان يمثل لي رحلة الحياة بكامل متناقضاتها .
سفرياتي التي ما كانت تتعدى الثلاث كل شهر حسب ظروف العمل كانت مملة في قطاري المكيف ، حيث الوجوه الصلدة والابتسامات المتكلفة والصحف المشرعة في صمت حتى وصولنا إلى نهاية الرحلة ، كنت أجلس مسترجعا تدفق المشاهد الآسرة للبشر الذين تترع أوصالهم بالحياة وهم يجاهدون في خضم بحر الحياة بتلاطم أمواجه وقسوتها ، لكنهم كانوا يستمتعون وهم يمارسون طقوس العيش بدهشة اللقاء الأول كل يوم ، ورغم الضيق والصياح والزحام تجد دوما الأيادي ممدودة والتكاتف هو السائد والحرص على الآخر مع اقتسام اللقمة مهما كانت بسيطة هو ديدنهم .
حين بدأ الضجيج يعلو من جديد لمحتها ، ولجت باب الكافتريا بحجابها الرقيق ونظرة عينيها الباسمة عبرتني في طريقها إلى أقصى طاولة في الركن ، جلست بهدوء وأخرجت بعض الأوراق وأمسكت بقلمها وهي تنظر إلى السقف ، ثم ما لبثت أن وضعت طرف القلم بين شفتيها ، لم أستطع صرف عيناي عن متابعتها ، كانت منشغلة بأوراقها وقلمها الذي ما أن يغادر الصفحة حتى يستقر بين شفتيها الكرزيتين في حركة عفوية ، بعد دقائق طلبت قهوتها ، كانت المرة الأولى التي أراها فيها لكنني كنت مشدودا إليها بطريقة لم أعهدها قبلا ، مرت لحظات قبل أن أدرك أن موعد قطاري قد حان ، حين وقفت وجدتها تلملم أوراقها هي الأخرى بعد أن نظرت إلى ساعتها وقامت مسرعة ، تبعتها وشعور غريب يغمرني ، ورغم أنها توجهت إلى نفس القطار الذي كنت أقصده إلا أن الزحام حال بيني وبينها وفرقنا.
أمضيت رحلتي منشغلاً بتلك الفتاة التي اقتحمتني من النظرة الأولي ، لم أؤمن يوما بالحب من النظرة الأولي أو حتي أجرب هذا الإحساس ، لذا شعرت بغرابة من تعلق فكري بها حتي موعد عودتي ليلا .
في صباح اليوم التالي وجدتني أتوجه إلى محطة القطار بلا سبب سوى رغبتي الملحة في رؤيتها ، جلست قريباً من الركن الذي جلست فيه بالأمس ، ورغم تعلقي الشديد بمتابعة أرتال البشر إلا أنني كنت اليوم منشغل البال أتلهف إلى رؤيتها ، مضت الدقائق ثقيلة حتى لمحتها ، خطت إلى نفس الطاولة ، تبسمت وهي تعبرني ، وبعد أن جلست وجدتها تحدق في وجهي ، شعرت بسعادة وأنا أشعر بأنها قد تعرفت إلى وجهي وشعرت بأن الحديث بيننا على وشك البدء.
حين لاحظت تحديقي إليها خفضت طرفها خجلا ، أما أنا فبقيت محملقا في وجهها ، بدأت في فرد أوراقها ولكني لاحظت ارتباكها ، طرأت علي ذهني فكرة ، طلبت قهوة لي ولها وقمت متجهاً إلى الطاولة التي كانت تجلس عليها ، رفعت عينيها حين اقتربت وقبل أن تتفوه بكلمة ابتسمت وأنا أستأذنها في تناول القهوة معها ، همست : ألست الأستاذ أكرم فوزي الكاتب المعروف ؟ تبسمت وأنا أومئ برأسي ، قامت ومدت يدها في ترحيب أزال بعض الحرج الذي كان يعتريني ، أردفت: لقد قرأت كل كتبك يا أستاذ ، تبسمت وأنا لازلت أنظر إلى عينيها ، تلعثمت وهي تداري خجلها من نظراتي وهمست : رنا صقر صحافية تحت التمرين .
حتي تلك اللحظة لم أكن أعرف بالضبط ماذا أريد ولمَ أقدمت على تلك الخطوة وماذا ستكون الخطوة التالية ، لكني حاولت ألا أقطع التواصل الذي بدا للتو بمحاولة الاستطراد في الحديث معها ، لكن صوت صافرة القطار قطع استرسالي ووجدتها تهب واقفة وهي تجمع أوراقها بسرعة وتعتذر مني مستأذنة لتلحق بالقطار ، ودعتها وحيرتي لا زالت تكبل خطواتي.
مرت عدة أيام كنت أحاول أن ألتقيها من جديد لكنها لم تأتِ إلى المحطة ، عدت إلى رتابة الحياة التي كنت أتقن طقوسها المتكررة ، حتى أتى يوم انعقاد الندوة التي كنا نعد لها بالصحيفة لمناقشة أعمال الأديبة العراقية انتصار الأنباري ، كنت قد رشحتها كضيفة لندوة الصحيفة الشهرية، خاصة بعد أن صدر كتابها الأخير الذي تناول قصة مدينة عراقية تعرضت لشتي صنوف العدوان الأمريكي وتناولها بالتحليل لقضية المقاومة بين التنظير والواقع ، وبعد قرائتي للنسخة التي أهدتني إياها موقعة وجدت أن القصص التي سردتها فيها الكثير من الواقعية ، وتناولتها برقتها المعهودة ورشاقة قلمها وأسلوبها الرائع الذي اشتهرت به وصاحب رحلتها الأدبية لثلاثة عقود هم عمرها الأدبي ، أما سنوات عمرها الخمسين التي عاشتها بحلوها ومرها ما بين وطنها ومنفاها فقد كانت ذخراً لتجربتها الأدبية الحافلة وتنوع كتاباتها وذيوع شهرتها على مستوى العالم العربي كافة .
اتصلت انتصار بي قبل الندوة بساعة ، حين وصلت إلى باب حجرتها بالفندق الذي كانت تقيم فيه وجدتها في أبهى زينتها ، رحبت بي كعادتها بعد أن احتضنتني وهي تطبع قبلة على خدي .. لم أصدق عيني، فرغم سنواتها الخمسين لا زالت انتصار بكامل أناقتها وجمالها الذي ينافس في بهائه بنت الثلاثين ، أجلستني بجوارها وهي تتأملني وابتسامتها الوضاءة لم تفارق ثغرها ثم همست: لك وحشة أيها الجميل كنت أفتقدك هناك ، تبسمت وواصلت صمتي وأنا جالس في محراب جمالها وغارق في بحر رقتها ، وفكري منشغل بتفاصيل حياة تلك الأنثى الثائرة التي برغم مواقفها الصلدة تخفي روح شاعرة وأديبة من طراز فريد .
كانت تربطني علاقة ود قوية بانتصار بدأت مع بداية رحلتها بمصر المحروسة ووقتها كانت شبه منفية بسبب بعض كتاباتها التي دعت إلى الحرية والانتفاض ضد الاستبداد والفساد ، مما أزعج النظام هناك فقررت المجيء إلى مصر بعدما بدأ زبانية النظام في مضايقتها فقررت نفي نفسها والابتعاد عن المشاكل ، وأتذكر كم جمعتنا مقاهي المحروسة ، وكم سهرنا لساعات الصباح الأولى ونحن نقرض الشعر ونتناقش ونتخاصم من أجل الأدب والكتابة ثم لا نلبث أن نعاود الكرة في الغد ، وكم كانت تتحمس انتصار وتتعصب لرأيها وتصر على مواقفها ، كانت شعلة ذكاء منطلقة وتعيش يومها بطلاقة وتحب كل من حولها وتبذل نفسها من أجل الجميع .
حين وقفت لتلقي إحدى قصائدها في الندوة تداعت كل الذكريات وأنا أنظر إليها كنخلة عراقية سامقة ، ورغم الحزن الذي كان يطل من أحرفها ، إلا أنها كانت تظهر بعض القوة وابتسامتها لا تفارق محياها ، أبهرت الحضور بشعرها وبإلقائها وشخصيتها الفريدة الطاغية الحضور ، وحين انتهت الندوة وبعد أن صافحت الكثيرين ممن حاولوا دعوتها والظفر بلقاء معها وهي توافق حيناً وتعتذر أحياناً متحججة بضيق الوقت ، نظرت إليَّ وكنت أنتظرها في ركن بعيد ، تبسمت وكأنها تعتذر عن التأخير .
اصطحبتها إلى مطعم صغير كنا نرتاده من سنوات بعيدة ، جلست وهي تتلفت حولها مسترجعة ذكريات جميلة دارت أحداثها بين جنبات هذا المطعم ، عيناها كانت تلتهم المكان في شوق وهي تحاول معانقة ذكريات كانت الأجمل في سنوات خلت ، تتحسس الشمعدان الذي أمامنا بأطراف أصابعها في رقة ، ثم تنظر إلى الزجاج المعشق والملون الذي كانت تزدان به جنبات المطعم ، والستائر التي كانت تتدلى في انسياب وتناسق بألوان كانت تعانق المكان ببهاء ، كانت تصمت أحياناً وتهمهم أحياناً ببعض أغنياتنا التي كنا نتشاطرها ونحن نتناول طعامنا في ذاك الزمن الجميل .
بعدما انتهينا من طعامنا بقيت أنا وهي ننظر بعضنا إلى بعض دقائق ، حتي همست في دلال: أرى بعينيك الكثير من الأسئلة ، رددت بابتسامة وقد عدت بالذاكرة أعواماً مضت وكأني أسمع نفس الجملة التي كانت انتصار ترددها بعدما تغيب عني أياماً ، كانت دوما تعرف ما بداخلي حتي وإن لم أبح به . احتضنت يديها بيداي وأنا أهمس : أسمعك .. احكي .. أود أن أعرف كل التفاصيل منذ فراقك لنا حتي عودتك ، لاحت على محياها ابتسامة باهتة وهي تتنهد وتقول: المهم أن يكون لديك وقت لقصتي الطويلة ، رفعتُ يدها وطبعتُ قبلة عليها وربتُّ برفق عليها وأنا أستحثها أن تبدأ في حديثها ، وبدأت هي تحكي:
حين صدر عفو رئاسي عن كل المنفيين فرحت كثيراً ، كنت قد اشتقت إلى رؤية أهلي وكما تذكر كنت قد اتفقت على أن أعود بعد عدة أشهر لتكملة الرسالة التي كنت أعدها ، ولكن وكما ذكرت لك في رسائلي بعد ذلك فقد منعنا من مغادرة العراق إلا بأذن رئاسي ،وقد حاولت مراراً أن أسافر وكان الطلب يرفض حتي أصبت بحالة من حالات الاكتئاب ومرضت جراء شعوري بالظلم وبقيت طريحة الفراش لأشهر، وحين بدأت أتعافى قليلاً ظهر أبو فراس صديق العائلة كان بعمر والدي وعطف عليَّ كثيراً ووقف بجانبي ،أشعرني بأنه سيحميني ، وكانت علاقته بالسلطات قوية وبدأت أشعر أنني لأول مرة أجد من يقف وراءي ويدعم بعض حريتي التي كانت قد اغتصبت ، عدت إلى الكتابة في الصحف وشعرت بالحياة تدب في أوصالي من جديد ، وبدأت في متابعة الإعداد لرسالة الدكتوراة التي كنت بدأتها وأنا بينكم هنا ، لكنني فوجئت بأبي فراس يوماً وهو يطلب مني الزواج ، رفضت في البداية وأنا أشعر أنه يريد مقابل حمايته لي ، فغضب وابتعد ، لكني وجدت كل من حولي يدفعني إلى الزواج به دون أن يفكروا في مشاعري، وقالوا إنه بزواجي منه سيتيسر لي السفر وتكملة رسالة الدكتوراة التي كنت بصدد الانتهاء منها ، كنت مضطربة المشاعر وأشعر بضعف وذهني مشتت ، لا أدري كيف وافقت وكيف تم الأمر بسرعة ولم تمض أيام حتي شعرت بفداحة خطئي وبدأ زوجي يظهر علي حقيقته ، في البداية منعني من العمل لشدة غيرته ، ورغم محاولاتي معه إلا أن إصراره كان يزداد و تطور الأمر بيننا إلى الأسوء حين رفضت طلبه بالاستقالة من عملي ، فأجبرني على تركه من خلال علاقاته .
ولم يمض وقت طويل حتي تخلى عن كل طيبته وظهر وجه آخر لوحش سادي لا يهمه إلا نفسه وشهوته ، كنت أمضي الليالي وأنا أبكي وأنعي حظي العاثر ، وهو نائم بجواري لا يشعر بي ولا بلوعتي وحزني ، ولم يمض عام حتي رزقت بطفلي الأول ، ظننت أن الطفل سيغيره وسيخرج الحنان الذي كنت أنتظره من رجل فارق السن بيني وبينه يكاد يصل إلى الضِعْف ، لكنه ازداد شراسه وقسوة ، وقد شعر بأنني لا أُكنّ له أدنى مشاعر ، وحين طلبت الطلاق منه ، أوسعني ضرباً حتي ذهبوا بي إلى المشفي ولم أستطع أن أنطق بحرف، فقد كانت علاقاته برجال السلطة تحميه ، ومكثت عند أمي شهراً ، أتي بعدها ليصطحبني أنا والطفل ولم يمض عام آخر إلا وكنا قد رزقنا بطفلة رائعة لكنه غضب وهاج وماج وأوسعني ضربا بعد الولادة بعدة أيام فقط فقد كان يرغب في صبي ، كنت أشعر أنه بدأ يفقد عقله ، وكانت أمي تصبرني حيناً وتحذرني أحياناً من بطشه ويده الطولى لدى كل الدوائر الرسمية ، بدأ الجحيم الذي أعيش فيه يزداد مما جعلني أقدم على الانتحار ، وبعد أن تم إنقاذي كال لي صنوف العذاب أضعافاً وأصبح يتلذذ بألمي ومعاناتي ، وكلما صارحته بكرهي له وحنقي عليه كان يزداد تعذيبه لي وقسوته معي ، مرت سنوات خمس وأنا أتهاوى ألماً وضعفاً ، ولم يكن يصبرني غير أولادي الذين بدأت أجد فيهم سلوتي ، وقد بدأ يغيب عنا أياماً ثم يعود بحيوانيته ليذيقني بعض العذاب ويكيل لي الإهانات ثم يرحل ، وعبثا حاول الجميع إقناعه بتطليقي ، وكان يردد ما عدت أهتم لأمرها لكني لن أتركها لغيري ، إلا حين أشعر أنها أصبحت لا تصلح لشيء ، عندها فقط سأتركها ، كانت كلماته سماً زعافاً حتي أنني فكرت في قتله ، بدأ يبتعد أكثر، ومرت عدة سنوات وأنا أتألم نفسياً وجسدياً ، حتي بدأت الحرب على العراق ، كنت قد تعودت الحزن وأدمنت الألم .
صمتت لحظة وهي تحاول أن تداري عبرات اختلطت بصوتها الذي بدا حزيناً مكسوراً ، همست وأنا أربت على يدها : يكفي إذا كنت تشعرين بإرهاق ، اصطنعت ابتسامة وهي تقول : لا، أنا أشعر أني أزيح عن صدري هماً حملته وحدي سنين ، إلا إذا كنت أنت تعبت من طول حديثي ، أشرت إليها أن تكمل وعيناي تنظران إليها نظرة عتاب ، ثم أشرت طالبا فنجاني قهوة لي ولها ، ارتشفت القهوة في تلذذ وهي تغمض عينيها في راحة شعرت بها وأنا أنظر إلى تقاسيم وجهها الفتان وابتسامة باهتة بدأت تراوح عليه من جديد ، كنت كمن يجلس في محراب الجمال المفعم بشجن هاديء ، قالت وقد فتر ثغرها عن ضحكة أنثوية ناعمة: مالك تنظر إليَّ هكذا ؟ لقد ذكرتني نظراتك بيوم طلبت مني أن نتزوج ، أتذكر يومها ما حدث ؟ هززت رأسي وأنا أتنهد ، أردفت : أتعرف ؟ لقد تمنيت مئات المرات وأنا في العراق أن يعود بي الزمن ، وكنت أندم ألف ألف مرة كل يوم على رفضي لحبك ، وكنت أضحك على أسبابي وفارق العمر ،خاصة حين تزوجت بهذا الكهل الذي أذاقني صنوف الذل والهوان ، فجأة تغير وجهها وأحسست بها تتألم ، جزعت وهببت واقفاً وأنا أسألها ما بها، ردت : لا تقلق ، ألمٌ يأتي ويذهب من فترة وقد قررت أن أجري بعض الفحوصات وأنا هنا في مصر ، كما تعلم الحرب دمرت عندنا أغلب المستشفيات ، قلت لها: سأكون معكِ لا تقلقي ، ثم قمت إليها ، أسندتها بذراعي وأنا أوصلها إلى حجرتها ، دعتني للدخول ، أوصلتها إلى سريرها، تمددت وجلست بجوارها ، كنت أمسح على شعرها وهي تبتسم في سعادة وتهمس :كم كنت أحتاج إلى بعض هذا الحنان ، قبلتها على جبينها وأنا أهمس :الأيام أمامنا لا تقلقي ،المهم أن نبدأ من غد في إجراء الفحوصات اللازمة لنطمئن عليك ، قالت في دلال : لا تتركني الآن ، ابق جواري حتى أنام ، أرجوك ، ابتسمت وأنا أرى الطفلة المشاكسة تطل من عينيها بعد غياب ، بقيت بجوارها ألقي بعض قصائدي كما طلبت حتى نعست ، قبلتها بين عينيها وأنا أغادر حجرتها.
في الصباح وفي طريقي إلى الصحيفة فكرت أن أمر بمحطة القطار خاصة وقد صحوت باكراً ، جلست أتناول قهوتي ، وأنظر إلى الركن الخالي ، لكني في النهاية لملمت شتاتي وقمت مغادراً .
بعدما أنهيت بعض أعمالي بالصحيفة ، توجهت إلى الفندق الذي لم يكن بعيداً عن مقر الصحيفة ، حين دلفت من الباب وجدت انتصار بكامل زينتها في بهو الفندق تنتظر ، أشارت إليَّ حين لمحتني ، توجهت إليها حيتني بابتسامة رقيقة وهي تتوجه معي نحو كافتريا الفندق ، سألتني إن كنت قد أفطرت ، تبسمت وأنا أقول : هل نسيتِ أنني لا أتناول الفطور أبداً ؟ قالت :هذا زمان أما الآن فأنا هنا وستفطر معي ، أم أنك بخيل ولا تريد أن تدعوني إلى الإفطار ، جلست قبالتها كانت حالها أفضل اليوم ، ونظراتها كانت أقل إجهاداً وأكثر تركيزاً ، قلت لها : لتكملي لي حكايتك ونحن نتناول إفطارنا.
بدأت انتصار تحكي من جديد ، قالت : حين بدأت الحرب شعرنا كلنا بالظلم وتكاتف الجميع ضد العدوان وتوحد العراق كله بعد الحصار ومضت السنوات وزادت المعاناة وبدأت تنتشر الجرائم ، كانت فترة عصيبة تحملت فيها مسؤولية طفلاي وكنت أرتعب خوفاً عليهما ، لكن ما حدث بعد ذلك من قذف وغارات واستعمال لكل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً والتي كانت تجرب فينا أصابنا بالرعب وخلف العشرات من الجرحى والمصابين بأمراض مزمنة وخطيرة ، ناهيك عن انتشار الأوبئة والمعاقين في كل مكان وبلا توافر علاج أو أدوية.
فكرت في الهرب عبر الحدود مع الأردن فقد كنت أخشى على أطفالي ، لكن لسوء الحظ قبض علينا وأودعت سجناً في بغداد ، كنت أتعرض إلى الإهانة والذل فيه واتهم في شرفي ووطنيتي وأوصم بأفظع الشتائم ، وحرمت من أولادي الذين بقوا مع إحدى قريباتي ، لم أخبرك أنني طوال هذه الرحلة لم أبتعد عن قلمي وكنت أصيغ بعض القصائد والكتابات حتى عندما أودعت السجن كان مطلبي الوحيد ورقة وقلم ، وقد قرأ أحد الضباط مرة ما كتبت بعدما وجدوه وهم يفتشون ، أحضرني إليه وسألني إن كنت أنا من كتب هذا الشعر في العراق ، تغيرت معاملتهم لي بعد ذلك ، ولم يمض سوى عدة أسابيع حتى وجدتني خارج الأسوار ، كانت فرحتي غامرة وحلمي يتحقق بلقاء وحضن أولادي .
عند خروجي من السجن كانت العراق على حافة معركة فاصلة ، وكانت سحب الحرب قد تجمعت ، وبدا الجميع متشائماً من القادم رغم تطمينات القادة ووسائل الإعلام ، لا أريد أن أطيل عليك ، تعرف ما حدث وما آل إليه العراق بين عشية وضحاها ، وانهيار كل المزاعم وهروب الجميع واجتياح العراق بما سبقه من قصف استمر لأسابيع أصابنا بالرعب وأصاب أطفالنا بأمراض مزمنة .
عند هذا لمحت الدموع تتساقط من عين انتصار ، أسرعت أكفكف دموعها بيدي وأنا أربت على كتفها طالباً منها أن تتوقف ، لكنها تصنعت الابتسام وهي تكمل :لا تقلق لقد تعودت عيناي البكاء واستوطن قلبي الحزن ، لقد خرجنا من الحرب ومشاعرنا كسيرة مشتتة لم نعرف أنفرح أم نحزن ، لم يتغير شيء ذهب طاغية وأتى طغاة ، وزج بالكثيرين في السجون بدعوى تعاونهم مع النظام السابق ، ونكل بالكثيرين وانتشرت المكائد ، وتجرعنا ذل العيش من جديد وضاقت بنا السبل ، فجأة وجدت أمامي الضابط الذي كان السبب في خروجي من السجن ، كان قد خلع زيه العسكري ويعمل في أحد المحال التجارية ، عرفني لكنه تجاهلني ، وقد لمحت بعينيه الخوف من أن أشي به ، لكنني انتظرت حتى انتهى من عمله ، ومددت يدي أصافحه وأشكره علي معروفه ، تبسم وهو يهمس لي كي لا أكشف هويته ، طمأنته ومضينا عبر الطريق ، حكى لي عن انهيار المؤسسة العسكرية وتفرق الضباط وهروبهم وتخليهم عن زيهم العسكري وتنكرهم خشية اعتقالهم من قبل القوات الغازية ، وعن بعض التنظيمات التي كانت بصدد الانضمام إليها لكنها كشفت وقبض على أعضائها وقتل من قتل وسجن الآخرون ، حكى لي عن أمه التي فقدها في الحرب وإخوته الذين لم يعد يسمع عنهم شيئاً ، كنت بحاجة لمن أتحدث معه ، خاصة بعدما فقدت كل المحيطين بي في الحرب ، أصدقاء وأقارب ، كان ظهوره بمثابة عربون مصالحة من الدنيا التي أدارت لي ظهرها زمنا ، لم تمض عدة أشهر حتى صرنا مقربين جدا ، وأعاد إليَّ الثقة بالرجال بشهامته وصدقه وحنانه ، وحمدت الله أن عوضني أخيراً برجل يحمل معي همومي ويشاركني وحدتي ، وكان قد بدأ يلمح لي أنه يشعر بالوحدة وأنه لن يجد مثلي لتشاركه ما تبقى من عمرة ، بدأت السعادة تلوح في الأفق بعد غياب ، وقررنا أن نتزوج وألا نضيع يوماً آخر من عمرنا ، لكن الحزن كان له رأي آخر ، فقد أبى أن يفارق قلبي ، قبل الزفاف بليلة واحدة دمر تفجير للمقاومة المحل الذي كان يعمل فيه وقتل مع من كان بالمكان ، حين وصلني الخبر جلست أبكي لعدة أيام ، حتى أولادي لم تجف دموعهم على من أشعرهم بالحنان وأنهم أكثر من أولاده .
أشفقت عليها من كم الحزن الذي يغتال جسدها النحيل ، قلت لها : ألست جائعة؟ دعيني أرافقك إلى مطعم تحبينه ، لكن قبل أن نذهب أريد أن أدعو بعض أصدقائنا القدامى ، تهلل وجهها بشراً وطفت عليه ابتسامة طفولية فرحة وقبل أن تسأل من سأدعو كنت قد بدأت في مكالمة رشدي وسناء وبعدهما ليلى وصلاح الذي طار فرحاً حينما علم بوجود انتصار ، وشكرني لأنه كان سيسافر في مأمورية عمل خارج القاهرة وربما كان سيفوته لقاء انتصار لو لم أهاتفه ، قامت مستندة على ذراعي وقربت وجهها من كتفي وهي تقبله بود ، أمسكت بيدها وقبلتها وأنا أتأبط ذراعها كما كنا نتمشى دوماً في الأيام الخوالي.
حين وصلنا إلى المطعم وجدت صلاح ينتظر على إحدى الطاولات ، قام فرحاً مرحباً بانتصار التي أحاطته بذراعيها وهي تكيل له السلام وتعاتبه على انقطاع أخباره عنها ، لم تمض دقائق حتى وصلت ليلى التي احتضنت انتصار كثيراً ولم تصدق عينيها وهي ترى رفيقتها الحبيبة بعد طول غياب ، كانت ليلى مديرة بإحدى المؤسسات الحكومية ، وقد أصابتها العنوسة لانغماسها في عملها واهتمامها به أكثر من اهتمامها بنفسها حتى فاتها قطار الزواج ، أما رشدي فقد تزوج من سناء بعد قصة حب عنيفة كنت شاهداً على فصولها وهما يعملان في إحدى الصحف الحزبية ، لم يرزقا بأطفال ، رغم كل أساليب العلاج التي جرباها ولم تؤت أية نتيجة ، لكنهما يعيشان كعاشقين ويهتمان ببعضهما ولم أرهما على خلاف يوماً ، لكن العمل أيضاً كان يأخذهما بعيداً كما هي حالنا جميعاً ، ولم نكن نلتقي سوى في المناسبات ، وأية مناسبة هي أجمل من عودة الجميلة انتصار إلى مجموعتنا ، اكتملت المجموعة بحضور سناء ورشدي ، وبين الضحكات والقفشات التي كان يلقيها رشدي تناولنا الطعام وكنت في قمة سعادتي وأنا أرى انتصاراً وقد فارقها الحزن الذي صاحبها منذ وصولها ، وأسمع رنين ضحكاتها الأخّاذ وهي تحاول أن تلقي عن كاهلها بعضاً من حزنها الذي نما عبر سنين وسقي بماء الألم والوحدة والعذاب .
حين انتهينا من الطعام ، وبعد أن تواعدنا على تكرار اللقاء وقام كل منهم مودعاً ومستأذناً ، نظرت إلى عينيها لمحت بقايا الحزن رغم محاولتها أن تخفيه ، سألتني بلطف : ألا زلت تريد أن تعرف باقي الحكاية ؟ ، أشرت لها أن تؤجل هذا لأنني أريدها الآن أن تعيش تلك اللحظة الجميلة بكل تفاصيلها ، وتتذكر فقط الذين يحبونها ويسعدون بوجودها معهم ، تبسمت وهي تنظر إلى الأفق عبر زجاج المطعم ، ثم سألتني لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟ صمتُّ قليلاً وأنا لا أجد برأسي جواباً لهذا السؤال ، التفتت إليَّ تطالع وجهي الذي فتر عن ابتسامة بلهاء ، نظرت إليَّ من جديد تستحثني على الإجابة ، لكنني تبسمت وأنا أنظر إلى عينيها صامتاً ، أردفت : لمَ لم تفكر بليلى ؟ لقد كانت في فترة من الفترات معجبة بك وبشخصيتك ، ولولا أنها كانت تراك دوماً معي لكانت اقتربت منك أكثر .
كنت محافظاً على هدوئي وأنا استمع إليها ولا أرد ، وقد كانت تفهمني جيداً وتعرف أنني حين أصمت لا يمكن لأي حديث أن يخرجني عن صمتي ، أكملت تساؤلاتها : وماذا عن صلاح ؟ تزوج هو الآخر ؟ تنهدت وأنا أنظر إليها وأستشعر كم الحب الذي تكنه للجميع ومدى اهتمامها بأحوال الجميع كما كان ديدنها دوماً ، همست : ألا ترغبين في السير قليلاً قرب النيل ، هبت الطفلة المشاكسة بداخلها وقامت مسرعة ، خرجنا من المطعم متجهين إلى كورنيش النيل ، كانت تغمض عينيها وهي تحاول أن تملأ رئتيها من الهواء كلما اقتربنا .
بعد مضي أكثر من ساعتين من الحديث والنقاش كنت أشعر أنها قد غسلت بهذا اللقاء وما تبعه من سعادة بعضاً من الحزن بداخلها ، طلبت أن نتوجه إلى فندقها لشعورها ببعض الإرهاق ، وكالعادة طلبت مني ألا أتركها حين وصلنا ، جلست بجوارها وقد تمددت على السرير وابتسامة رضا عمت وجهها المتعب ونظرات دافئة تطل عبر عينيها الجميلتان ، مدت يدها وسحبت يدي إلى شفتيها وقبلتها برفق ، انحنيت على وجهها قبلتها بين عينيها ، ثم همست : ألن نذهب لإكمال الفحوصات التي أوصى بها الأطباء ؟ تبسمت وهي ترد ألم تنسَ بعد ؟ لقد نسيت أنا ، قمت مودعاً إياها وأنا أهتف: سأمر عليك غداً لنذهب لعمل التحاليل .
في تلك الليلة ألح على خاطري طيف رنا صقر، تلك الفتاة التي أسرتني بجمالها ورقتها وتقاطع طيفها وسؤال انتصار عن سبب عدم زواجي حتى الآن وقد بدأت في العقد الرابع من عمري ، شعرت بأنني كنت أبحث عن فتاة أحلامي التي وجدت بعضاً منها ربما في انتصار ، لكنني وجدتها كلها في رنا ، رقتها ثقافتها جمالها أنوثتها شبابها ، لا أدري ، بقيت لوقت متأخر أكتب ، وحين حاولت النوم كان آخر شيء أغمضت عليه عيناي هو طيف رنا .
في الصباح هاتفتني سناء تعلمني بأنها ورشدي يدعواني أنا وانتصار وباقي الزملاء إلى الغداء في بيتهما ، حاولت التملص لكنها أصرت بشدة ، بعدما أنهيت بعض أعمالي بالجريدة مررت لاصطحاب انتصار ، وجدتها في بهو الفندق في قمة زينتها وأناقتها ، دعتني لتناول القهوة قبل الخروج ، جلسنا صامتين ونحن نستمع إلى الموسيقى الحالمة التي تهادت عبر بهو الفندق في نعومة ، كانت تغمض عينيها وتهمهم ، حين انتهى العزف ابتسمت وأنا أدعوها إلى الخروج ، ونحن في طريقنا إلى المستشفى لإجراء التحاليل تلقيت اتصالاً هاتفياً من ليلى تخبرني بأن صلاح قد أصيب في حادث سيارة وهو عائد إلى القاهرة وأنه حالياً في المستشفى ، تغير وجهي وتملكني القلق ، حين أخبرت انتصار التي كانت تنظر إليَّ في هلع وأنا أتلقى الخبر أصرت على أن نغير وجهتنا لنطمئن على صلاح أولاً ، بعد نصف ساعة وجدتنا جميعا في انتظار خروج صلاح من غرفة العمليات ، كنا صامتين ونتبادل النظرات في قلق ، مضت الدقائق ثقيلة ، حين خرج الطبيب طمئننا أن حالته مستقرة ، استأذن رشدي وزوجته وبقيت أنا وليلى وانتصار بجواره ، حين انتصف النهار استأذنت ليلى لظروف عملها ، وبقيت مع انتصار التي أصرت ألا نغادر حتى يفيق ونطمئن عليه .
قبل العصر بقليل أفاق صلاح ونظر حوله ، عانقت الدهشة عيناه وهو يرى انتصار جالسة بجواره ، ابتسم وهو يحاول أن يحيها ، ربتت على يده وهي تهمس: الحمد لله إنك بخير ، نظر إلى صلاح في ود نظرة شاكرة ، بقينا مع صلاح حتى الليل ومن ثم ودعناه بعدما تلقت انتصار مكالمة من ابنتها في العراق ، بدت قلقة بعدها ولكنها لم تذكر شيئاً أمام صلاح .
حين غادرنا قالت :لابد أن أسافر غداً ، ولدي مريض جداً وبحاجة إلى أن أكون بجواره ، قلت : والتحاليل والفحوصات ؟ ابقي يوماً آخر فقط ، قالت : لا أستطيع ، لكني أعدك أنني سأعود قريباً ، اعتذر لسناء ورشدي وبلغ سلامي لليلى وصلاح ، لم أفهم وقتها لماذا أصرت على السفر بتلك السرعة ؟ ولمَ لمْ تذكر تفاصيل أكثر عن مرض ابنها ، لكنني احترمت رغبتها ، أوصلتها إلى الفندق وعلى غير العادة ودعتني على الباب بعدما اتفقنا أن أحضر باكراً لأوصلها إلى المطار.
في الصباح وجدت آثار دموعها على وجنتيها وعينيها المتعبتين اللتان حاولت أن تغطيهما بنظارة شمس كبيرة ، كان للصمت الغلبة أثناء رحلتنا إلى المطار ، سألتها : متى ستعودين ؟ أجابت باقتضاب : قريباً بإذن الله ، فور أن أطمئن على ولدي أياد ، كنت استشعر وجود خطب ما لكني تعودت أنا وهي ألا نسأل عن شيء لا يرغب أحدنا في قوله للآخر ونتركه حتى يبوح به من تلقاء ذاته ، كنت أفهمها وهي أيضاً تفهمني لذا كنا مقربين .
حين اقتربنا من صالة السفر انفجرت باكية وهي تطلب مني أن أدعو لولدها ، ثم ناولتني ورقة بها أرقام هواتفها قبل أن تحتضنني وهي تودعني ، كانت انتصار ذات عاطفة جياشة ، وكنت أدرك هذا ؛ لذا لم أستغرب بكائها وشجنها الذي تملك كل حواسها بعد تلقيها للمكالمة الهاتفية من ابنتها ، ولأنها لم ترغب في أن تتسبب لنا بأي ألم أو ضيق فقد احتفظت بأسرارها لنفسها .
غادرت انتصار على وعد بالعودة ، وعدت أنا إلى حياتي وإلى زيارة صلاح بالمستشفى كل يوم ، والغريب أن عودتنا إلى التجمع من جديد أتت بسبب انتصار ومن بعدها إصابة صلاح ، فقد عدنا نلتقي من جديد وزادت الرابطة بيننا بعدما كنا قد تباعدنا زمناً ، وأصبحنا نلتقي مرة كل أسبوع على الأقل ، حتى ولو غاب أحدنا لظرف ما ، وكنا دوماً نتذكر انتصار ونتسائل إذا كان لدى أحد منا أي خبر عنها أو عن ولدها ، خاصة أن هواتفها التي أعطتني أرقامها لم تكن تجيب .
لكن أيامنا كانت تمر ولقاءاتنا التي بدت أنها ستنتظم وتستمر بدأت تفقد انتظامها ومن ثم أصبحت تتم على فترات متباعدة ، وانشغل كل منا بحياته وعدنا كما كنا قبل حضور انتصار نكتفي بالهاتف لنتواصل في أغلب الأحيان .



الفصل الثاني
كان فصل الشتاء قد أطل بشجنه المصاحب لطول لياليه وهدوء الشوارع وحبات المطر التي تعانق زجاج النوافذ في ود ، وقد أتى مصاحباً لحدث رائع وهو تكليفي بإدارة مكتب الصحيفة في الإسكندرية ، وكم كانت سعادتي بهذا التكليف ، ليس لكونه ترقية لي بقدر ما كانت سعادتي لكون عملي الجديد سيكون في الإسكندرية التي أعشقها وأعشق ليلها وبحرها ، هدوؤها الممزوج بعنفوان الموج بهديره ورقة احتضان نسيمها لهمومنا ، كم كنت أحب الذهاب إليها شتاءً للتمتع بصفاء ليلها وسماع موسيقى نقر قطرات المطر على نافذتي بالفندق ، وقد كانت كلها أجواء تساعدني على الكتابة والإبداع .
في صباح ذلك اليوم توجهت إلى المحطة قبل الموعد بعدة ساعات كعادتي ، وبدأت في ممارسة هوايتي بمتابعة أرتال البشر الزاحفة في بانوراما الحياة التي تتوالى مشاهدها بإيقاع منتظم حيناً ولاهث أحياناً ، ظللت محدقا في الجموع حتي قرب موعد قطاري بنصف ساعة ، فوجئت بها ، كان قد مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتها وتاهت مني في الزحام ، لمحتها بثوبها الأنيق وغطاء رأسها الرقيق ، كانت تضع زينتها في بساطة أظهرت جمالها بشكل لافت ، ابتسمت وهي تتوجه نحوي لتحيتي وهمست : ألا تزال تذكرني يا أستاذ أكرم ؟ لم أرد وقد ألجمتني المفاجأة ، أردفت وهي تمد يدها لي : رنا صقر ، تبسمت وأنا أدعي تذكرها ثم قمت مصافحاً وأنا أدعوها إلى الجلوس ، وما لبثت أن طلبت القهوة لكلينا ، تبسمت شاكرة وهي تسألني إن كنت أسافر يومياً ، رددت وأنا أرتشف قهوتي: أنا أحضر هنا كثيراً لأني أستمد شخوص رواياتي من هذا المكان ، إن هذا المكان بواقعه الجميل هو مصدر إلهام لي ، نظرت إليَّ في دهشة ، تابعت :لكني اليوم في رحلة سفر، لقد تم تعينيني مديراً لمكتب الصحيفة بالإسكندرية ، هتفت في حماس إذن أنت مسافر إلى الإسكندرية ، وأنا أيضاً فقد تم تعيني كمراسلة للصحيفة التي أعمل بها بالإسكندرية ، كان موعد القطار قد اقترب ، سألتني وهي تهم بالمغادرة : هل أستطيع زيارة حضرتك في مكتبك بالإسكندرية لأستفيد وأتعلم من خبرتك ؟ أجبتها بأن هذا سيكون مصدر سعادة لي ، ثم ناولتها الكارت الشخصي ونحن نغادر المكان متوجهين إلى القطار.
حين استويت جالساً ظل فكري منشغلاً برنا ، تلك الفتاة التي شغلتني لفترة واستولت على اهتمامي ثم ما لبثت أن اختفت حتى حسبتها طيفاً اختفى إلى الأبد ، ثم ها هي قبل أن يبدأ اهتمامي بها يفتر تقفز من جديد إلى واجهة حياتي ، لم أستطع تحديد طبيعة مشاعري التي كانت مضطربة ، مر الوقت سريعاً وأنا منشغل بالتفكير في الأمر ، ورغم أنه كانت من عادتي أن أستغل وقت السفر في القراءة أو الكتابة فإن فكري الذي كان مشتتاً لم يسعفني للقيام بأي شيء سوى التحديق عبر النافذة في حقول خضراء كانت ممتدة عبر البصر وأشجار كانت تمر وكأنها تعدو من خلال النافذة .
حين توقف القطار محدثاً ذاك الأزيز الصارخ في عناد عجلاته لمكابح الفرملة ، لمحت سكرتير المكتب بالخارج في انتظاري ، اصطحبني إلى المكتب ومررنا بطريقنا على كورنيش الإسكندرية ، هممت بأن أطلب منه التوقف لأستمتع بمنظر البحر لكنني تراجعت.
بدأت رحلة عملي بداية جيدة، قدم المكتب عدة انفرادات صحفية ، كما أنني قمت باستقطاب عدد من الأدباء من أبناء الإسكندرية ليقوموا بنشر أعمالهم بالصحيفة بانتظام ، وقمت بالتخطيط لعمل عدة حفلات استقبال بعدة فنادق ودعوة صحافيين من عدة صحف منافسة لتلك الحفلات التي كنت أهدف من ورائها عمل أكبر دعاية ممكنة للصحيفة لزيادة التوزيع .
في أولى الحفلات وأثناء استقبالي للضيوف وجدتها أمامي من جديد ، كدت أسمع دقات قلبي وهي تصافحني ، كنت خلال أيامي الأولى والإعداد لوضع خطة للنهوض بمكتبنا ودوره في دعم الصحيفة ، لكن رغم ذلك لم يكن طيف رنا يفارقني حتى حينما هاتفت مكتبهم لإعلامهم بإرسالي عدة دعوات لحضور الحفل ، لم أمنع نفسي من السؤال عنها للتأكد من وجودها وحضورها الحفل .
ابتسامتها التي كانت تضيء وجهها وأنوثتها الطاغية التي برزت من خلال الثوب الذي كانت ترتديه بلون زهري وغطاء رأس سماوي كان أكثر الأثواب أناقة وبساطة ، حين صافحتني احتويت يديها بين يداي وشعرت ببرودة يديها ، لمحت ابتسامة رضا مخلوطة بخجل وهي تسحب يدها من بين يدي ببطء ، نظرتُ إلى عينيها وجدت لمعة فرح وهي تتجه إلى الداخل .
حين انتهيت من استقبال جميع الضيوف اتجهت إلى الداخل وفرحة طفولية تداعب قلبي ما لبثت أن طغت على كل مشاعري حين وجدتها تشير إلي مقعد خالٍ بالطاولة التي جلست إليها ، تقدمت خطوات وأنا أستشعر أنني أطير ، لا أعرف ما حدث لي ، كنت أستشعر أن شيئاً بدأ للتو يولد بيننا ، وأن مشاعري بدأت تتشكل بطريقة واضحة تجاه رنا ، أما هي فقد لاحظت بإحساسها الأنثوي العالي نظراتي إليها وكانت كمن يريد للشراراة الأولى أن تبدأ لتظهر بعضاً من مشاعرها ، والتي لاحظت من خلال اهتمامها وحرصها على الاقتراب مني أنها لم تكن تقل عن مشاعري .
على غير عادتي ظللت طوال الحفل بجوارها أحادثها وأنظر إلى عينيها ، لم يشغلني شيء في الحفل سواها ولم أبتعد عنها سوى بضع دقائق ألقيت فيها كلمة ترحيب بالحضور ، في نهاية الحفل سألتني مجدداً إذا كانت تستطيع زيارتي في مكتبي بالصحيفة في الغد ، أومأت مرحِّباً ، حين صافحتني كانت ابتسامة رقيقة تطل من عينيها وكانت يدها دافئة .
في الصباح قمت نشيطاً وأنا أمني نفسي بلقائها ، ذهبت إلى المكتب باكراً وجلست أنهي بعض أعمالي وكتاباتي وأنا أنظر إلى الساعة كل بضع دقائق ، مضت ساعتان ، لم أستطع الصبر أكثر ، حملت هاتفي وطلبت رقمها الذي كنت قد سجلته أثناء حديثي معها في الحفل ، كررت المحاولة لكنه كان مغلقاً ، بعد بضع دقائق حاولت من جديد ، تملكني ضيق وأنا أشعر بالقلق ، حين انتصف النهار كنت قد قررت أن أتصل بمكتب صحيفتها لأسال عنها ، ترددت قليلاً لكني في النهاية لم أستطع إلا أن أقوم بالسؤال ، ردت زميلتها في المكتب باقتضاب ، والد رنا توفى ليلة أمس وقد غادرت إلى القاهرة.
لم أعرف شعوري وقتها بالضبط كنت حزيناً لأجلها ، لكني شعرت براحة تشمل نفسي بعدما اطمئننت عليها ، فكرت أن أغادر إلى القاهرة لأكون بجوارها في هذا الظرف ، لكني تراجعت ، خشيت عليها من الألسنة ، من هذا ؟ ولمَ حضر ؟ وما علاقته بك ؟ كما أن عملي بالمكتب كان يتطلب بقاءي ، أصابتني حيرة لم تجعل عيني تغمض حتي صباح اليوم التالي ، كنت مجهداً وقلقاً ، ولم أمل من تكرار طلب رقم هاتفها ، عند الظهيرة أتى صوتها حزيناً باكياً على الطرف الآخر ، همست : أعرفت الخبر ؟ قلت لها : إنا لله وإنا إليه راجعون البقاء لله ، شكرتني وصوت بكائها يكاد يخنقها ، أقفلت الخط وأنا أشعر بحزن يجتاحني لأجلها .
مرت أيام ثلاثة كنت خلالها أطمئن عليها في مكالمات مقتضبة ، أخبرتني في آخرها أنها ستحضر إلى الإسكندرية لمتابعة عملها ، دعوتها لزيارتي في المكتب ، اكتسى صوتها براحة وهي تؤكد على حضورها وتشكرني .
قبل مغادرتي المكتب وصلتني رسالة عبر الايميل من انتصار تخبرني فيها بأنها ستحضر إلى القاهرة خلال أيام وكانت تلك الرسالة بعد فترة انقطاع وعدم رد على رسائلى أو الهاتف ، فكرت أن أتصل بانتصار لكني تراجعت لا أعلم لمَ ، أمضيت ليلتي وأنا أكتب حتى الفجر ، غفوت قليلاً ثم ما لبثت أن استيقظت وتوجهت مباشرة إلى مكتبي ، قمت بالرد على رسالة انتصار فور وصولي ، وطلبت منها أن تطمئنني على صحتها خاصة وأنها رحلت في المرة الأخيرة دون أن تتم الفحوصات التي كانت بصدد القيام بها ، كما طلبت منها أن تحدد لي موعد حضورها بدقة .
لم ينتصف النهار حتي رأيت رنا قد حضرت بثوب أسود أنيق أبرز جمالها ، ورغم الحزن الذي كان بادياً عليها إلا أن رقتها الطاغية كانت تلفها ببهاء ، كانت نظراتها حائرة وأفكارها تائهة وصدمة فقدها لوالدها ما زالت تلوح وترفرف بحزن فوق هامتها ، جلست أتأملها في صمت ، وقد نظرت إلى الأرض صامتة هي الأخرى وكأنها تنتظر أن أبدأ أنا الحديث ، كنت في حضرة جمالها كناسك في محراب الجمال يتعبد صمتاً ، لم أشأ أن أقطع جمال اللحظة بأية كلمات ، وظللت أحاول أن أعيد طباعة صورتها آلاف المرات على مقلتي ، رفعت طرفها بهدوء فتلاقت أعيننا ، ازدردت ريقها وهي تتعثر في خجلها بعدما لاحظت ما لاح بعيناي ونظراتي من مشاعر يصعب مداراتها ، مدت يدها بحركة عفوية كي تسوي غطاء رأسها ، همست وأنا لا زلت أتأمل وجهها : يصعب على أي كائن ألا يتأمل هذه الرقة المعانقة لجمالك ، ابتسمت وهي تحاول أن تهرب بنظرها من عيناي ، أردفت : وكيف رتبت عملك ؟ هل ستبقين معنا بالإسكندرية أم أن الظروف الجديدة غيرت من ترتيباتك ؟ ردت بهدوء : لا فقد رتبت لكل شيء وسأبقى بمكتبنا بالإسكندرية ، تهلل وجهي فرحاً ، وأنا أرد : إذن سأراكِ كثيراً ، ردت : هذا سيكون من دواعي سروري يا أستاذ ، فأنا متشوقة إلى الحديث معك والتعلم من خبرة حضرتك ، أتى الساعي بالقهوة وعصير كنت قد طلبته لرنا ، قمت إلى مكتبتي وأحضرت كتابين كانت قد سألتني عنهما حينما جمعتنا تلك الأمسية ، ابتسمت وهي تتناولهما بفرح ، ثم قالت : لقد كنت بحاجه إلى تلك الكتب ولم أستطع الحصول عليهم من أي مكان ، لا أدري كيف أشكرك ؟ لم أفوت الفرصة فقلت بسرعة :تستطعين شكري إذا قبلت دعوتي على الغداء اليوم ، أومأت موافقة بعد برهة تردد .
لم تكن رنا صقر رغم رقتها وبساطتها الظاهرة تلك الفتاة الساذجة ، بل على العكس كانت متقدة الذكاء صقلتها الأيام وعلمتها تجارب الحياة الكثير، وكان لانخراطها في مجال الصحافة منذ أن كانت طالبة الأثر الكبير في اتساع مداركها وتفتح ذهنها ، أما طموحها فلم يكن له سقف ، كانت تواقة بشغف إلى الأفضل دوماً ، ساعدها ذكاؤها على تحقيق بضع خطوات في طريق النجاح ، طريقتها كانت اختصار المسافات وتخطي المقدمات وهي طريقة كانت تتبعها في جميع تعاملاتها ، ظهر هذا خلال لقائي الأول بها ورغم قصر الفترة التي كنت تعرفت إليها فيها ، فقد اتضحت لي سمات شخصيتها تلك لبساطتها وعفويتها .
حين جمعنا المطعم لأول مرة أثناء غدائنا للمرة الأولى سوياً كانت رنا بسيطة واضحة لماحة ، ظهرت خفة دمها في أكثر من موقف سواء معي أو مع مع بعض العاملين بالمطعم ، وكان للحديث القصير الذي دار بيني وبينها حين انتهينا من تناول طعامنا أثر كبير في تشكيل علاقتنا فيما تلى ذلك ، كنت أنظر إليها ساهماً ، حين فاجئتني وهي تهمس برقة وعذوبة قائلة : لمَ تنظر إليَّ هكذا ؟ صمتت قليلاًً قبل أن أجد أحرفي تسبق تفكيري لأول مرة وبلا تحفظ قلت لها : أنتِ جميلة جداً يا رنا ، لم يظهر أي أثر للمفاجأة على وجه رنا التي ظلت محدقة في عيناي وابتسامة تعانق عينيها ، أكملت حديثي بعد أن شجعتني ابتسامتها وردة الفعل على وجهها ، قلت : ربما الظروف ليست مناسبة ، لكنني أريد أن أقول لكِ إنني ... ، لكني وقبل أن أكمل وجدتها تسرع بوضع يدها على فمي بعفوية اعتذرت بعدها وهي تقول برقة : لا تتعجل الأمور ، أطرقت إلى الأرض وأنا أفكر إذا كنت قد تسرعت .
مرت عدة أيام قبل أن ألتقي رنا من جديد ، كان لقاء عابرا ، أتت إلى مكتبي لتعيد المراجع والكتب التي أعطيتها إياها قبل أيام ، لم تمكث سوى بضع دقائق ، كنت في حيرة من أمري وأنا أودعها ، أما رنا فقد حافظت على هدوئها وابتسامتها .
ورغم أنه لم تسنح فرصة جديدة للقائنا إلا أن الهاتف ظل وسيلتي للاطمئنان عليها من خلال مكالمات يومية كانت سريعة أحياناً وأحياناً تطول إلى نصف الساعة ، في نهاية الأسبوع وصلتني مكالمة من صلاح يخبرني فيها بأنه علم من سناء بقدوم انتصار بعد يومين ، كنت قد انشغلت ولم أفتح صندوق البريد الإلكتروني ، تأكدت من بريدي ووجدت رسالة من انتصار بالفعل تخبرني فيها بموعد رحلتها .
اتصلت بها تليفونياً لأتأكد من الموعد ، لكنني شعرت من صوتها بأنها تعبة مرهقة ، حاولت تصنع ضحكة وهي تطمئنني على حالها ، لكنها لم تستطع أن تخفي عني سبب حضورها ، وهو إجراء الفحوصات التي سبق وحددها الطبيب ، زاد قلقي وهي تؤكد أنها بحاجة ماسة إلى إجراء تلك الفحوصات ، سألتها عن ولديها قبل أن أنهي المكالمة وطمئنتني ، قمت بالاتصال بالمستشفى لأحدد موعداً لانتصار ، وحزني على حالها يكاد يخنقني .
هاتفتني رنا فرحة وهي تسألني إن كنت قرأت التحقيق الذي نشر بصحيفتها في صفحتين ، كنت قد بدأت في تصفحه قبل أن أنشغل بموضوع انتصار ، وقد أعجبني كثيراً ، كان أسلوب رنا يتقدم ويرتقي بسرعة ، ساعدتها ثقافتها ووعيها بالإضافة إلى موهبتها الفطرية ، كانت تتصل لتدعوني أحتفل معها بنشر أول تحقيق كبير باسمها في الصحيفة ، قبلت دعوتها وذهبت للقائها في أحد المطاعم ، كنت على غير عادتي منشغل التفكير طول الوقت وساهماً ، لاحظت هي ذلك فسألتني عن سبب تشتت فكري ، لم أكن أعرف لحظتها إذا كان من المناسب أن أخبرها بقصة انتصار وشكوكي التي روادتني بخصوص التحاليل بعدما تحدثت إلى أصدقائي بالمستشفى ، أم أصمت ولا أشغل بالها بأمر لا يعنيها ، خاصة في مناسبة تعتبرها أفضل ما حدث لها مؤخرا .
وخلال حيرتي وجدت رنا تحدق في وجهي وهي تتساءل عما أخفيه ، تبسمت وأنا أحاول مواصلة صمتي ، أردفت قائلة : إذا كنت لا ترغب في إخباري فهذا خيارك ، صمت قبل أن أبتسم وأنا أرى فضول رنا يكاد يقتلها ، ثم وجدتني أسألها : هل سمعتي عن الكاتبة العراقية انتصار الأنباري ؟ أجابتني : نعم لقد كانت بمصر منذ أشهر قليلة ، قلت : إنها صديقة قديمة وهي قادمة إلى مصر من جديد لعمل فحوصات ، ارتسمت على وجه رنا علامات الراحة وهي تضحك وتقول : أهذا ما يقلقك ؟ أتريد أن أتولى أمر استضافتها ؟ كما أنني ممكن أن أكون بصحبتها عند إجراء التحاليل ، تبسمت وأنا أشكرها موضحاً لها حساسية انتصار تجاه الأمر وأنها تعتبرنا إخوتها هنا بمصر وتنتظر أن نكون معها أنا وباقي أصدقائها ، غادرتني رنا وهي تشعر براحة بعدما استطاعت معرفة ما شغلني واقتربت أكثر من فهم شخصيتي كما استطعت أنا أيضاً الاقتراب من شخصيتها أكثر.
في تلك الليلة بعد عودتي من المكتب هاتفتني رنا ، حين سمعت صوتها الرقيق شعرت بإحساس غريب ، كانت رنا هادئة وصوتها يتراقص فرحاً ، تحدثنا قرابة الساعة ، ولاحظت أنها تسألني عن أشياء كثيرة تتعلق بحياتي ، حتى أنها تطرقت إلى خصوصيات حياتي ، وكنت أجيبها بصدق وببساطة أراحتها ، خاصة أنني لم أعلق أو أسألها عن سبب أسئلتها الكثيرة ، تمنت لي ليلة سعيدة وهي تغلق الهاتف ، أما أنا فقد بدأت أشعر أن حلمي ربما بدأ يتسلل إلى أرض الواقع ، نمت تلك الليلة قرير العين .
في صباح اليوم التالي كنت على موعد مع أصدقائي الذين بدأت أخبار حضور انتصار تجمعهم من جديد ، أتت ليلى إلى مكتبي بعدما كانت قد تحدثت مع سناء وقد ارتسم الرعب على وجهها وهي تحاول أن تتأكد من الأخبار التي وصلتها ، هززت رأسي في أسى ، وأنا أقول: إن صديقي الطبيب قد أخبرني أن احتمال نسبة إصابتها بالسرطان كبيرة وهذه التحاليل للتأكد والبدء في مراحل العلاج ليس إلا ، اغرورقت عينا ليلى وهي تحوقل وتدعو الله ، بعد قليل وجدت رشدي وزوجته قد حضرا ، ودون أن يسألا كانت علامات الحزن وبكاء ليلى دليل علي ما حل بانتصار ، وقد اتفقنا ضمنياً على عدم البوح بشيء حتي تظهر النتيجة الفعلية وإن كنا على يقين منها ، إلا أن خوفنا على مشاعر انتصار وحرصنا على ألا تشعر بشيء كان الدافع وراء تأكيدات بعضنا لبعض أن نتعامل معها وكأن شيئاً لم يكن ، تطرق الحديث إلى حياة كل منا ، وغمزت ليلى في كلامها بكلمة عن رنا ، لم أشأ أن أعلق وتجاهلت الأمر ، لكن سناء عاودت السؤال عن سبب انشغالي عنهم وعما يتردد من قرب ارتباطي ، ابتسمت في هدوء وأنا أحاول الهروب من الأسئلة ، ولم ينقذني سوى رشدي الذي صاح بهم قائلاً : كفاكم أسئلة الرجل مرهق وإذا أراد أن يخبرنا بشيء فسيخبرنا ، لنقم الآن فإني قد حجزت لكم طاولة في أحد المطاعم بمناسبة ذكرى زواجنا أنا وسناء.
كانت المرة الأولى التي يحتفل فيها رشدي وسناء ، ورغم ما حاولا أن يبدياه فقد شعرت بأن الأمور ليست على ما يرام بينهما وأن هذا الاحتفال لا يعدو أن يكون محاولة لإظهار عكس ما هي عليه علاقتهما ، واتضح هذا جلياً من نظرات كل منهما إلى الآخر خلال احتفالنا رغم أن ليلى كانت تحاول بخفة روحها وقفشاتها تخرجنا من كآبة تجمعنا إلا أننا تفرقنا في النهاية وكل منا يحمل همه بصدره .
حين وصلت إلى البيت وقبل أن أخلع ملابسي رن الهاتف ، كانت رنا بكل دفئها وحيويتها وصوتها الذي يشعرني بسعادة لا توصف ، ويخرجني من حالات الملل والإرهاق ، ويحلق بي في سماوات الجمال ، أتى صوتها ليغسل قلبي من بعض أحزانه ، ويعيدني إلى جنتها ، كنت أحترم رغبتها في عدم البوح بمشاعري ، لكني بدأت استشعر من صوتها أنها راغبة في أن أكسر حلقة الصمت التي التزمت بها ، رغبة مني في إرضائها واحتراماً لطلبها ، كنت على وشك أن أتحدث إليها لولا أنني شعرت أني بحاجة إلى النظر في عينيها حين أتحدث ، بحاجة إلى أن أرى وقع كلماتي في قلبها عبر عينيها ، لذا فقد أنهيت المكالمة بعدما طلبت هي ذلك وقد شعرت بإرهاقي عبر صوتي ، أما أنا فقد جلست أفكر في الغد وسفري للقاء انتصار .
حينما أطلت انتصار من بعيد كان وجهها شاحباً ، ورغم محاولتها إخفاء هذا الشحوب بكم كبير من الزينة إلا أننا لاحظنا الإجهاد البادي عليها ، احتضنتنا واحداً تلو الآخر وهي تفتعل ضحكة ، كانت المرة الأولى التي ننتظرها جميعاً ، وكالعادة اصطحبتها أنا إلى الفندق بعدما ودعها الجميع على وعد بلقاء في الغد ، كان الانكسار واضحاً على محيا انتصار، لم تكن كعادتها ، ولم تطلب أن أبقى معها كما كانت تفعل ، استأذنتني لترتاح قليلا ، ودعتها وأنا أنظر إلى الأرض محاولاً ألا أنظر في عينيها ، أما هي فقد قالت ضاحكة سأنتظرك في المساء لنتعشى سوياً .
توجهت إلى مكتبنا الرئيسي وفكري مشتت ، بعدما أنهيت بعض الاتصالات بمكتب الإسكندرية ، فكرت أن أتصل برنا ، أتى صوتها ناعماً رقيقاً ، سألتني :هل حضرت انتصار ؟ تنهدت وأنا أخبرها بحالها وبما وصلت إليه وكيف رأيت نظرة ألم وانكسار لأول مرة في عينيها ، حاولت رنا التخفيف عني بكلماتها ، وعرضت من جديد أن تأتي إليَّ في القاهرة لمساعدتي ، لكني كنت أعرف ما سنلاقيه من إجهاد في هذا اليوم ، حتي ننهي الفحوصات والتحاليل ، فطلبت منها أن تنتظرني في مساء الغد حين أعود من القاهرة ، لأني أريد أن أتحدث معها في أمر يخصنا ، صمتت لبرهة قبل أن تجيب بدلال : كما تحب ، ثم أردفت :اعتبر هذه دعوة للعشاء ، ضحكت وأنا أودعها وأعود إلى أفكاري وانتصار ورحلتنا التي ستحمل الكثير في الغد .
بقيت في المكتب حتى المساء ، ثم توجهت إلى الفندق ، لم أجد انتصار في انتظاري ، صعدت إلى غرفتها كانت لا تزال تكمل زينتها ، ابتسمت بلطف وهي تستقبلني معتذرة عن التأخير ، استندت لذراعي ونحن في طريقنا إلى مطعم الفندق الذي فضلته عن الخروج ، طوال جلستنا لم تكن انتصار هي التي عرفتها قبلاً ، كانت نظراتها زائغة ، وصوتها خفيض وضحكتها مشوبة بحزن ، لم تنظر إلى عيناي طوال جلستنا ولا مرة واحدة ، كانت تتحاشى النظر إليَّ وتشيح بعيداً وهي ترسم ابتسامة باهتة علي وجهها ، وجدتني أتوجه إليها بسؤال عن ولديها ، وكأني قد فجرت كل ينابيع الحزن بعينيها ، بكت كما لم تبكِ من قبل فوجئت بكم الحزن الذي كانت تحاول إخفاؤه ، ومن بين دموعها أتت أحرفها متقطعة حزينة ، لكني فهمت أن ابنها وافته المنية بتأثير مرض غامض نتج عن الأسلحة الكيميائية والمشعة التي استخدمها الاحتلال ضد النظام والشعب هناك ، تركتها حتى هدأت تماماً وقد دمعت عيناي ، نظرت إليها وأنا أربت على يدها ، كفكفت دموعها وهي تهمس أرجوك دعنا نغير الموضوع ، كنت أحاول أن أظل صامتاً احتراماً لمشاعر انتصار، لكنها كانت تكثر من الأسئلة ، وكأنها تحاول أن تنسى أو تتناسى ، وبدأت تسأل عن أخبار الجميع وتطمئن على استقرار حياتهم ، ثم توقفت برهة قبل أن تفاجئني بسؤال ما توقعت يوماً أنها ستسأله لي ، كانت لا تزال تحدق في الأفق عبر النافذة وهي تقول هامسة : وأنت ... أستظل هكذا ؟ ألم تفكر في الزواج والاستقرار؟ أتظن نفسك صغيراً ؟ لم أستطع مداراة دمعة كانت تراوح في عيني ، لكني ضحكت وأنا أحاول أن أغير الموضوع قائلاً : يبدو أنك غيرت عملك مؤخراً ، هل تطمعين أن تصبحي الخاطبة الجديدة لنا ؟ لم تزد على أن ابتسمت وهي تلتفت إليَّ وتطيل النظر وكأنها تراني للمرة الأخيرة .
بعد أن انتهت سهرتي مع انتصار غادرتها وأنا أشعر بوخز في صدري ، لم أستطع النوم في تلك الليلة إلا قليلاً ، وفي الصباح كنت في موعدي لاصطحب انتصار ، رافقتها إلى المستشفى ، وقد كانت لعلاقاتي الواسعة الأثر الكبير في الحفاوة التي كنا نقابل بها والرعاية المتميزة أثناء أداء الفحوصات والتحاليل ، لم ينتصف النهار إلا وكنا قد أنهينا جميع الفحوصات ، ورغم ما كنت أحاوله من رسم ابتسامة وإبداء البهجة أثناء تنقلنا بين الأقسام ، إلا أنني كنت أشعر من خلال النظرات بالنتيجة ، كما أن انتصار بذكائها وإحساسها العالي كانت تدرك هي أيضاً أن الأمر محسوم ولا يفصلها عنه إلا بضع سويعات تعرف بعدها النتيجة ، حين غادرنا المستشفى طبلت إليَّ أن أوصلها إلى الفندق ، ثم أخبرتني في طريقنا أنها تود أن تبحر في رحلة نيلية ، ثم تلتقي بالجميع في نفس المقهى الذي كان يجمعنا ونحن في مقتبل عمرنا ، وحين سألتها متي تريد أن يكون اللقاء ، أجابت بحزم: الليلة ، لم أكن أستطيع أن أرفض لانتصار طلب ، خاصة وهي في تلك الحال ، نظرت إليها وأنا أقول : ألا تريدين أن ترتاحي اليوم ونتجمع غداً ؟ صمتت قليلاً ثم قالت: أعرف أني أتعبتك وتسببت لك في الإجهاد ، رددت بسرعة أنا لست متعباً ، أنا فقط أشعر بأنك تحتاجين إلى الراحة ، لكن كما تريدين سأتصل بهم فوراً.
في أثناء رحلتنا النيلية ظلت انتصار ساهمة رغم تناثر بعض أسئلتها بين الحين والآخر ، وكنت طوال الرحلة أفكر في رنا ، كنت قد افتقدتها ، فبرغم أنها كانت تتصل بي واتصل بها إلا أن شعوري بأني بعيد كان يجعل شوقي إليها وإلى لقائها شديداً ، كنت قد أخبرتها بأن انتصار في صحبتي وأنها ستلتقي بأصدقائنا مساء اليوم ، خفت صوتها قليلاً ثم تصنعت ضحكة وهي تقول : المهم ألا تهرب من دعوة الغد .
لكزت انتصار في ذراعها وأنا أراها ساهمة ومحدقة في اللا شيء ، نظرت إليَّ مبتسمة ، فقلت لها : إلى أين وصلت ؟ همست في هدوء : لا شيء ، فقط كنت أفكر في ابنتي ، قلت لها : ما بها ؟ قالت: لا شيء فقط تذكرتها وفكرت كيف ستكمل طريقها بدو... ، ثم توقفت كلماتها في حلقها واندفعت دموعها بغزارة ، ربتُّ علي كتفها وأنا أحاول التخفيف عنها ، ووجدتني أضمها إلى صدري برفق فوضعت رأسها على كتفي وبدأت تهدأ قليلاً ، كنت في حيرة من أمري ، لم أشأ أن أتفوه بكلمة تعيد رسم الحزن على وجهها من جديد ، لذا فضلت الصمت ، مرت دقائق قبل أن ترفع رأسها من جديد وتنظر إليَّ ، قالت : أتظن أنني لا أعرف نتيجة التحاليل ؟ ومن الآن أنا أعرف أن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت ليس إلا ، لقد أخبرني طبيبي هناك في بغداد ، وأنا أشعر بالمرض يكاد يفتك بي ، أنت لا تدري مدى الألم الذي أستشعره وأعانيه كل ليلة ، لقد حاولت إخفاء الأمر عن ابنتي لكني أظن أنها أيضاً تعلم وتحاول ألا تظهر شيئاً ، كما فعلت أنت ، أنا لا أعترض على قضاء الله ، فأنا راضية بحكمه ، أتعلم ؟ أود لو تنتهي عذاباتي وألمي ، فقط ما كان يقلقني هو أولادي وكيف سيواجهون حياتهم من بعدي ، الحياة أصبحت قاسية وأنا أخاف عليهم ، أنا لم أترك لهم شيئاً ، وقد كنت أتمنى أن تصفو لي الحياة وأقدم لهم عوضاً عن أيام العذاب ، وعن كل ما عانوه بسببي ، لكن أبى القدر أن يمنحني تلك الفرصة ،فرحل أياد وأخذ معه كل رغبة لي في الحياة ، إياك أن تتصور أني حزينة أو خائفة من فكرة الموت ، أقسم أن هذا الهاجس لا يقلقني ، فقط أنا قلقة على ابنتي ومن سيكون لها من بعدي ، قلت : لها الله يا انتصار ،ثم أنت ربنا يهبك العمر الطويل .
كنت طوال هذا أنظر إليها وأنا مشاعري مشتتة ما بين الإعجاب بانتصار وقوتها وإشفاقي عليها وعلى رقة مشاعرها وأحاسيسها التي تكاد تتمزق بسبب وفاة ابنها وشعورها بالعجز والحيرة من أجل ابنتها ، أما هي فقد توقفت للحظة قبل أن تكمل : أتعرف لمَ أصررت على تلك الرحلة اليوم ؟ لأني أريد أن أفعل أشياء كثيرة وأعرف أن الوقت الباقي لي أصبح قليلاً ، أريد أن أودع أصدقاءنا وأن أجلس إلى سناء ورشدي واستمع إلى ليلى وأعرف أخبار صلاح ، أريد أن نعاود اجتماعنا ولو لمرة قبل أن ...، ثم صمتت من جديد قبل أن تكمل : اعتذر منك فأنا قد أثقلت عليك اليوم ، ثم اصتنعت ضحكة وقبل أن أرد محاولاً أن أفهمها أنني لا أشعر بالتعب بل بالعكس أشعر بسعادة لكونها بيننا ، لكنها أكملت وهي توقف حديثي : أنا أريد أن نعيد إحياء إحدى ليالي الماضي على الكورنيش وفي نفس المقهي الذي كنا نلتقي فيه ونحن شباب ، قلت لها ضاحكا : سنجتمع بإذن الله ،فقد اتصلت بالجميع وأكدوا على حضورهم ، كما أنني قلت لهم أنك صاحبة الدعوة يعني استعدي للدفع ، مدت يدها وهي تتلمس وجهي بأطراف أصابعها وتقول : ستظل الأروع والأجمل بين الجميع يا أكرم .
سألتها إن كانت تود تناول الطعام لكنها لم تجب ، كنت أشعر بها ، كانت رحلتنا قد قاربت على الانتهاء ، أمسكت بيدها ونحن نتجه إلى النزول ، كانت يدها باردة ، طلبت أن نكمل سيرنا بمحازاة النيل ، لكنها بعد عدة خطوات توقفت ، همست في ضعف : أشعر بدوار ، أسندتها بذراعي ، وتوقفنا للحظات قبل أن تطلب مني أن نكمل السير من جديد ، حين وصلنا إلى المقهى الذي كنا قد تواعدنا على اللقاء فيه وجدنا صلاح جالساً ينتظر ، قام مرحباً وهو يحتضن انتصار فرحاً ، جلست انتصار وهي تبتسم وطلبت فنجان قهوة ، كان الصمت يخيم على الجلسة ، لكن حين حضرت ليلى بدأت أصواتنا تعلو وهي تذكرنا بأيامنا الخوالي ، والمقالب التي كانت تتقنها انتصار دوماً ، ولأول مرة أسمع ضحكة انتصار تجلجل من جديد بعدما ظلت من يوم وصولها لا أرى إلا حزنها الموشوم على وجهها ، وبدأ صلاح يتذكر هو أيضاً ، ولم تمض دقائق حتى انضم إلينا رشدي وسناء ، وتوالت القفشات ورأيت اندماج انتصار وصوتها يعلو من جديد فعانقتني السعادة ، وتذكرت لحظتها رنا فاستأذنت وقمت لأحادثها تليفونياً ، كانت رنا تنتظر مكالمتي ، ردت بلهفة وصوتها حمل إليَّ دفئها وعطرها الذي أعشق ، أخبرتها باختصار عما قمت به وعن جلستنا واطمئننت عليها ثم عدت من جديد أتابع حديثهم ، لكن ليلى لم تترك الفرصة ومن جديد عادت لتسألني: ألن تخبرنا عن عشقك ؟ نظرت إليها وأنا أحاول أن أغير الموضوع ، لكن انتصار نظرت إليَّ نظرة لوم وقبل أن أجيب وجدت الحصار يكتمل بضحكة صاخبة من سناء وهي تصيح : اعترف الآن ، حاولت أن أكون هادئاً وقلت بهدوء لو كان هناك شيء ستكونون أول من يعرف ، وتدخل صلاح وهو يقول : اتركو الرجل في حاله .
مرت الساعات سريعاً وقارب الليل على الانتصاف فقام الجميع مودعاً ، وقمت أنا وانتصار كي أوصلها إلى الفندق ، في طريقنا وجدتها تضحك كثيراً قبل أن تستجمع نفسها وتسألني : أصحيح أن قلبك بدأ يعرف طريق الحب الآن ؟ نظرت إليها ولم أرد ، فأردفت : لقد بقيت وقتاً طويلاً بدون حب حتى أنني اقتنعت أنك لن تعرف إلى الحب طريقاً من جديد ، لكن يبدو أن إحداهن أفلحت في سلب قلبك ، لم أرد سوى بابتسامة ، تابعت انتصار : أعرف أنك لا تريد أن تتحدث عن شيء ، لكني بصدق سعيدة من أجلك فأنت تستحق كل خير ، صدقني لا يحي القلب ولا يضخ الدم في عروق حياتنا سوى الحب ، وصلنا إلى الفندق ، ودعتني على بابه وهي تقول : يكفيك اليوم ما سببته لك من تعب ،اذهب لتسترح ، ودعتها على موعد في الصباح لمعرفة نتائج الفحوصات .
لم أنم في تلك الليلة أصابني أرق حتي الصباح ، وقبل أن أهم بالخروج وصلتني مكالمة من رنا تطمئن عليَّ ، وجدت انتصار تنتظرني في بهو الفندق ، دعتني لتناول القهوة ، لمحت القلق الذي كان يكتسي به وجهها رغم حرصها على أن تبدو هادئة ، بعد أن انتهينا اصطحبتها إلى المستشفى ، وفي مكتب مدير المستشفى كانت المقدمات التي حاول قولها تحمل الرسالة بوضوح ، إنها مصابة بالسرطان وفي مراحله المتأخرة ، حاولت انتصار منع دموعها ، لكنها لم تستطع ، أجهشت بالبكاء ، وقد دمعت عيناي وأنا أرى انتصار القوية تنهار بتلك الطريقة ، بعد أن هدأتْ قليلاً اعتذرتْ وهي تلملم شتات نفسها وتغادر، حتى أنها لم تكمل سماع رأي الطبيب في مراحل العلاج التي يقترحها ، اعتذرتُ من الطبيب ولحقت بها ، خرجت أحرفها من بين دموعها حزينة متفرقة وهي تهمس : أريد أن أسافر اليوم ، هل تستطيع أن تتدبر لي حجزاً إلى بغداد اليوم ؟ لم أشأ أن أناقشها في قرارها وهي بتلك الحال ، وعدتها وبدأت في إجراء اتصالاتي حتى وجدت لها مقعداً على رحلة مسائية ، شكرتني وهي تؤكد على ألا أخبر أحداً الآن ، وأردفت: لا أريد أن أتسبب لأحد في حزن ، حتى أنت أرجوك عد إلى عملك ، سأكون بخير وسنكون على تواصل حتى .... ثم عاودها البكاء من جديد ، أوصلتها إلى حجرتها بالفندق وتركتها لتستريح بعدما أخبرتها أنني سآتي إليها لاصطحبها إلى المطار .
كنت حائراُ بين أن أنفذ لها طلبها بعدم إعلام أحد بما صار أو أنني سأكون موضع لوم من الجميع لأنني أخفيت أمر سفرها ولم أعطهم الفرصة ليودعوها ، لكن الفرج أتى مع مكالمة سناء التي سألت بلهفة عن النتائج ، وقد غابت عني للحظات سمعت صوت بكائها فيها ، وحين أخبرتها بما تم وأنها طلبت الرحيل الليلة وأنها لا تود التسبب في الحزن لأحد ، قالت سناء بلهجة قاطعة : اترك الأمر لي ، فقط أخبرني عن موعد الرحلة ، حين وصلت مع انتصار إلى صالة المطار وجدت الجميع هناك ، كانت سناء وليلى تضعان نظارات سوداء كبيرة لتخفي أعينهما التي أيقنت أنها أرهقت من البكاء ، أما صلاح ورشدي فقد بدت عليهما أمارات الحزن والألم ، حاولت انتصار أن تخفف من المسألة وهي تصطنع ضحكة وتتهمني بأني سأظل كما أنا لا أحفظ سراً أبداً ، كانت دقائق الوداع ثقيلة ، وحين انتهت انتصار من السلام عليَّ همست في أذني : ربما تكون هذه المرة الأخيرة التي أراك فيها ، لكن تذكرني دوماً وتذكر أنني أحببتك وندمت على كل يوم كنت بعيدة عنك فيه ، أحياناً يكون الغباء هو سيد بعض المواقف ، فاعذر غباءي
كانت تلك كلمات انتصار الأخيرة لي ، بعدها غادرتنا وكلنا نبكي صديقة شِعرنا بأنها تودعنا إلى الأبد .












الفصل الثالث



كنت قد أنهكت خلال فترة وجود انتصار وأصبت بإرهاق شديد لكني سافرت في نفس اليوم عائداً إلى الإسكندرية ، بعدما وصلت إلى المكتب صباحاً لم أتحمل وسقطتُ على الأرض مغشياً عليَّ.
حين أفقت وجدت نفسي على سرير بالمستشفى وبجواري جلست رنا ، نظرت إلى عينيها كانتا بهما لهفة وقلقاً ، مدت يدها وأمسكت يدي في حنو ، تابعت النظر إلى عينيها شعرت بخجل فسحبت يدها ، لكني لم أفلتها ، ابتسمت رنا وقد توردت وجنتاها ، لم أمكث طويلاً في المستشفى فبعد يومين لم تكن رنا تفارقني فيهما للحظة غادرت المستشفى ، لكن كان قد كتب لعلاقتنا فصل جديد .
بعد خروجي من المستشفى اصطحبتني رنا إلى منزلي ، كانت المرة الأولي التي تدخل فيها بيتي ، شعرت بكم الحنان الذي يملأ قلبها، وبعد أن اطمئنت عليَّ غادرتني ، لكن من بداية لمس يدي ليد رنا بالمستشفى كان عهد العشق قد تم توقيعه بأعيننا.
في الصباح وجدتني اتصل برنا وأدعوها لمقابلتي ، التقيتها قريباً من الكورنيش ، حين عانقت عينيها لمحت فيهما لمعة تلهفت إلى رؤيتها ، توجهنا إلى كافتريا هادئة كانت رنا تخبرني دوماً أنها تفضل الجلوس فيها ، تبسمت ونحن في طريقنا إليها ، حين جلسنا نظرت إلى عينيها طويلاً ، كانت تنظر إليَّ وكأنها تنتظر البوح الذي بدأ يتقافز من قلبي مع دقاته وفاضت أحرفه عبر عيناي ، لم أفكر في أحرفي بل تركت قلبي يتحدث نيابة عني ، لم تقاطعني رنا حتى انتهيت ، صمتت للحظات قبل أن تهمس : أحبك ، وتمنيت أن أشعر بحبك الصادق الذي كنت أنتظره طوال عمري ، لكني أعرف أنك الأستاذ بكل خبرتك وتجاربك ، كنت أخاف أن أكون تجربة عابرة أو أن أكون نزوة ستمر وتمضي ، لهذا رفضت أن تتسرع بالبوح بحبك لي ، كنت أود أن تتـأكد من مشاعرك أولاً ، وأتأكد أنا أيضاً منها ، وقد زاد يقيني يوماً بعد يوم من صدق مشاعرك ، لهذا أنا اليوم أشعر بسعادة ليس لها نهاية ، كنت أستمع إلى رنا وأنا مبهور فرغم صغر سنها إلا أن عقلها الراجح لا يترك لمشاعرها المتأججة العنان بل أنها تتحكم فيها بعقلانية ، يزيد على هذا تمتعها برهافة الحس ودفء المشاعر .
بدأت علاقتنا بهذا البهاء وباعترافنا بمشاعرنا في نفس الوقت ، وفتحت صفحة رائعة في حياتي التي كانت تنحصر بين العمل والبيت دون أن أشعر يوماً بجمال الحياة التي كنت دوماً أتناولها في كتبي وكتاباتي دون أن أعيشها بنفسي وبتفاصيلها التي كنت أتقن الكتابة عنها دون أن أعيش أية لحظة من لحظاتها التي عشتها بعد إحساسي بحبي لرنا وبعد أن صارحتني بمشاعرها تجاهي .
مرت عدة أيام على لقائنا هذا ، كنا خلالها نتواصل تليفونياً عدة مرات في اليوم الواحد أبثها خلالها شوقاً وأستمع منها إلى أرق الكلمات مصاحبة لأعذب وأندي صوت ، صوت رنا الذي كان مجرد سماعه يبهجني ، كانت رنا واحة مزهرة ظهرت بحياتي فغيرت الكثير وبدلت إحساسي بالجمال وبكل ما حولي ، وقد كانت تتسلل إلى كل ركن في حياتي بخفة ورقة وعذوبة ودون أن تشعرني ، وتهتم بأدق تفاصيل حياتي وتحاول أن تشاركني وأن تقترب مني في بساطة ودون أن أشعر بأن تدخلها وقربها عنوة أو تدخل إلزامي ، طلبت مني أن أرتب موعداً للقاء أصدقائي الذين كنت قد تحدثت عنهم معها ، وكانت لا تمل من سردي لقصصي معهم أو لتفاصيل علاقتنا ، طبيعة رنا المتفهمة والراغبة في إقامة جسور من الثقة والتفاهم بيننا كانت تدفعها إلى دراسة كل تفاصيل حياتي ، ومعرفة كل دقائق مكوناتها من أصدقاء واهتمامات وغيرها ، وقد كان هذا من أهم ميزات رنا التي كنت أشعر أنها تستغلها لإقامة ارتباطنا على أسس قوية رغبة منها في استمرار جمال ورقي ارتباطنا وتدعيمه بكل ما يهيء له سبل نجاحه .
حين التقينا جميعاً في بيت رشدي ، أخذ صلاح يكيل المدح لرنا ويمارس هوايته في الدمج بين المزاح والجد ، وهو يعرض عليها خدماته في حال تخليت عنها ، وهي تضحك في خجل ، لكن لم تمر ساعات اللقاء إلا ورنا قد سكنت بقلوبهم جميعاً ، وأشاد الكل بها وتمنوا لنا السعادة ، لكني كنت ألاحظ ونحن جالسين أن ثمة سحابة تمر بها علاقة رشدي وسناء ، لم يكن الأمر بينهما على ما يرام ، وقد نظرتُ إلى ليلى نظرة فهمت منها مقصدي فأماءت وهي تحاول أن تداري ، أما رنا بعد أن غادرنا فقد لامتني على نظرتي إلى ليلى واستفهمت عما دار بيننا ، ضحكت وأنا أرى غيرتها للمرة الأولى ، ثم قلت لها : ألم تلحظي أن رشدي وسناء لم يتشاركا أي حديث طوال جلستنا وأن الحزن كان ظاهراً بأعينهما ، قالت رنا : لاحظت ولكن ما دخل هذا بنظرات ليلى إليك ونظراتك إليها ، ضحكت من جديد وقلت لها: يا أميرتي ! ليلى معي من أكثر من خمسة عشر عاماً ، وهي كأخت لي ، أنا فقط كنت أتأكد مما رأيت ، وقد أجابتني بطرف عينيها أن هناك مشكلة.
كانت رنا تحقق النجاح يوماً بعد يوم ، وتزداد شهرتها مع كل تحقيق صحافي وبدأ اسمها يلمع في سماء الكتابة ، ومع هذا النجاح بدأت الأعين تتطلع إليها ، فكان لابد أن نسارع بإعلان خطبتنا ، وقد اتفقت معها على إقامة حفل بسيط في أحد الفنادق على أن ندعو كل المقربين لنا وزملاءنا في العمل ، وقد كان من رأي رنا أيضاً أن يكون الحفل بسيطاً ، بدأت ليلى في عمل تصميم الدعوات ، وحجز صلاح لنا قاعة بأحد الفنادق وقامت سناء بمصاحبة رنا وإعدادها ليوم حفل الخطوبة ، أما رشدي فقد لازمني طوال الوقت وكان فرحاً سعيداً وهو يساعدني ، حضر الحفل كثير من الزملاء والأصدقاء جميعهم ، ونادية صديقة رنا المقربة ، والتي كانت تكاد تطير فرحاً وهي ترى رنا بجمالها ورونقها وجاذبيتها أجمل النساء في هذا اليوم ، كنت أشعر أن الكل يحسدني على ارتباطي بهذه المرأة التي تقترب من حد الكمال ، جمال وعقل وثقافة ، رقة وعذوبة وأنوثة ، كنت أرى كل النساء في رنا ولم تكن عيني ترى سواها .
وقد مرت الحفلة دون أن ألحظ انشغال رشدي بنادية صديقة رنا ، لكن بعد انتهاء الحفل وجدت رنا تهمس في أذني ونحن نتناول العشاء سوياً متسائلة عن رشدي وسبب اهتمامه الكبير بنادية ، وحين أجبتها بأنني لم ألحظ لأني كنت مشغولاً بها وبجمالها وبتأمل روعتها طوال الحفل ، ابتسمت وهي تداري خجلها وتقول : صدق من أطلق عليك ملك الرومانسية ، أنت إنسان جميل جداً يا أكرم ، دوماً تأسرني بكلامك ، لكن لنعد إلى موضوع رشدي ، لقد لاحظت اهتمام غير عادي منه بنادية ، وقد لاحظت أن سناء انتبهت إلى هذا وكانت غاضبة لكنها حاولت ألا تظهر شيئاً وتجاهلت الموقف ، رغم أني كنت ألمحها تراقبهما بين كل لحظة وأخرى ، قلت لرنا : اتركي كل شيء اليوم ، هذا يومنا الأول مرتبطين ، أود أن نقضيه بدون أن نفكر في شيء سوى أنا وأنتِ ومستقبلنا وحياتنا وكيف سنخطط لها وكيف سنعيشها ، تبسمت رنا في دلال وهي تهمس : اترك كل شيء لأوانه ، قلت : ولكني مشتاق إليكِ من الآن ، قالت : وأنا أكثر منك لكننا اتفقنا ، يجب أن نبني علاقتنا على أسس قوية ونعد أنفسنا لحياتنا لتدوم سعادتنا ، أمضيت ليلتي مع رنا ساهرين ، مستمتع بحديثها العذب وبقربها الذي كان حلماً فأصبح واقعاً.
في الصباح وجدنا صورنا تملأ كل الصحف مع التهنئة من الأصدقاء والزملاء ، اتصلت رنا لتعرف إذا كنت رأيت الصور ، وقد كان صوتها أول ما صافح أذناي في الصباح فكان أجمل شيء أفتح عيناي عليه ، وقد شعرت بعدم رغبتي في الذهاب إلى المكتب ففضلت المكوث في البيت ، ثم اتصلت برنا أدعوها إلى تناول الغداء معي ، فأخبرتني بأن نادية دعتها قبلي ، فقلت لها : إذن اصطحبيها معك وسنتناول معاً الغداء ، لا أدري ما دفعني إلى دعوتها لكن كلمات رنا عن رشدي ونادية ربما كانت السبب ، حين التقيتها هي ورنا شعرت بأنها تشبه رنا في أشياء كثيرة ، وبدا لي أن رشدي ربما وجد فيها ما افتقده في سناء وكان سبب خلافاتهما المستمرة التي كانت لا تلبث أن تبدأ بعد أن تنتهي بأيام أو أشهر قليلة .
بعد عدة أيام وجدت رشدي في مكتبي رحبت به وسألته عن أخباره وأخبار سناء ، رد باقتضاب وهو يتناول قهوته ، شعرت بأن هناك ما يود السؤال عنه ولكنه تردد ، تريثت وأنا أنتظر أن يبدأ هو ، صمت قليلاً ثم قال : ألا توجد عندك أخبار عن انتصار ، قلت له : لقد انقطعت عني أخبارها ، حتى الهاتف الذي أعطتني رقمه مغلق أغلب الوقت ، صمت برهة ثم قال: ورنا ما أخبارها ؟ قلت: بخير ، هل كنت تتصور يا رشدي أن أقابل مثل هذه المرأة ؟ إنها هدية من السماء ، هز رأسه موافقاً وهو يقول : عندك حق ، ثم رفع يده وهو يهرش بحركة عصبية في رأسه وقال : هل عرفتك رنا على نادية ؟ شعرت بأن هذا هو ما أتى برشدي ، تبسمت وأنا أجيبه : طبعاً وقد تناولنا الغداء مع بعضنا منذ عدة أيام ، قال رشدي : هي إنسانة محترمة ورقيقة جداً ، هززت رأسي موافقاً دون أن أتكلم ، أكمل : وهي شخصية ناجحة ومتميزة ، لم أعلق ، أما رشدي فقد قام مستأذناً ، ثم سألني وهو يصافحني : نادية تعمل في نفس الصحيفة مع رنا أليس كذلك ؟ قلت : نعم وأنا أحاول أن أكتم ضحكة كانت توشك على الانطلاق .
جلست أفكر ـ بعدما غادرني رشدي ـ في كلام رنا ، وقد كنت في حيرة ، فعلمي أن رشدي وسناء دوماً على خلاف لكني لم أرَ رشدي قبلاً يتعلق بأحد كما أراه الآن وكأني به في سنوات صداقتنا الأولى شباباً نتلهف على بنات الجامعة ، لهفته وخجله وهو يحاول أن يعرف كل شيء عن نادية دون أن يصرح بهذا كانا مسار دهشتي ، وأنا الذي كنت أظن أني أعرف رشدي جيدا ، اتصلت برنا وقلت لها إن ظنها كان في محله ، وإن رشدي أظهر اليوم اهتماما بنادية وكان يسأل عنها ، وقد كانت دهشتي كبيرة حين أخبرتني رنا أن نادية هي الأخرى بدأت بسؤالها عن رشدي وعلاقته بزوجته وأنها أخبرتها بما تعرفه لكنها كانت هي الأخرى مصابة بدهشة مما حدث ، فهما لم يلتقيا سوى مرة واحدة في حفل خطوبتنا ، ظللت طوال اليوم أحاول تحليل أو فهم ما يجري لكني لم أفلح ، تركت المكتب وتوجهت إلى بيتي ، وقبل أن أنام تحدثت إلى رنا ليكون آخر شيء أفعله هو سماع صوتها .
في الصباح دون موعد وجدت رنا في مكتبي ، قمت إليها مرحبا ، صافحتني برقة وجلست وهي تهمس : ألن تطلب لي شيئا ، تبسمت وأنا أقول لها : أنتظر أوامر الأميرة ، ضحكت وهي تخفي خجلها وقالت : ومن سيجاريك في الكلام؟ أنت الأستاذ وستظل ، فرددت بسرعة : ليس كلاما ،؟وأقسم أنما هي مشاعري تفيض أحرفا حين أتحدث إليك وحين تعانق عيناي جمالك ورقتك ، قالت : قد تستغرب مجيئي، خاصة أني لم أخبرك ، لكنك وحشتني جدا وأردت أن أراك فأتيت ، لتقل إني مجنونة أو لتقل ما تشاء لكني افتقدتك فأتيت ، نظرت إليها بحب وأنا أبتسم ، قالت : أكرم لقد أمضيت ليلتي أفكر وقد خلصت إلى أنني لن أستطيع العيش بعيدا عنك ، إن حياتي أصبحت مرتبطة بحياتك وبقربي منك ، أنت أصبحت كل أملي وزواجي منك أصبح حلمي الذي أعيش من أجله ، لا تندهش لقد فجر حبك بداخلي ينبوعاً من السعادة لا أستطيع أن أصفها لك ، لكني فقط أحاول أن أنقل لك بعضاً مما أشعر به وليس كل ما أشعر به ، أنا أحبك بصدق يا أكرم ولن أكتفي من حبك ، مددت يدي وأمسكت بيديها وأنا أغمض عيناي وأتمتم شاكرا الله أن منحني هذا الحب وتلك الإنسانة التي أعادت إلى قلبي حياته وإلى حياتي رونقها ، وأضاءت ظلمات عشتها سنينا قبل أن تشرق شمس حبها فوق قلبي .
حين انتصف النهار كنت غارقاً في أوراقي وعملي بعدما غادرتني رنا ، لكن لم أستطع الفكاك من طيفها الذي لازمني وأنا أعمل وكنت أتخيلها واقفة طوال الوقت تنظر إليَّ وأنا أعمل ، وأتخيلها وهي مقبلة مع فنجاني قهوة لنا ، كان ما بيني وبين رنا نوعاً من الكيمياء التي تدهشك حين تحاول الاقتراب منها ، وتعجز عن فهمها أو تفسير كيف أننا ننطق حرفاً واحداً في نفس اللحظة ، وكيف هذا التوافق بين طبيعتها وطبيعتي عاداتها وعاداتي ، الألوان المفضلة ناهيك عن الكتب والذوق في الملابس ، كنت في أحيان كثيرة أجلس مفكراً ومتخوفاً من أن يكون هذا الذي أعيشه حلماً سأصحو منه عما قريب وربما يصدمني الواقع بقسوته ، لكن دفء رنا وحيويتها كانا دوماً الوقود لاستمرار معايشة هذا الحلم الرائع الذي وجدتني بطله مع رنا .
ولأن الأيام لا تصفو لنا دوما فقد تم تكليفي بالسفر لتغطية المؤتمر الدولي لدول الثمانية بسويسرا وكانت أعمال المؤتمر تمتد لمدة أسبوعين ، ورغم أنني كنت من المحظوظين لأني سأقوم بتغطية أكبر حدث اقتصادي في العالم وستكون فرصتي لتحقيق عدة مكاسب على المستوي المهني والشخصي ، إلا أن فكرة ابتعادي عن رنا لمدة أسبوعين كانت ترعبني وأنا الذي تعودت أن ألتقيها يومياً أو يوم بعد يوم ، وأشعر بأن قربها يمدني بالقوة والقدرة على الاستمرارية ، كان الرابط بيني وبين رنا يزداد يوماً بعد يوم ، وكنت حين لا ألتقيها يوماً أشعر بأنني أفتقدها بشدة وأبقى أحادثها تليفونياً إلى وقت متأخر ، لذا كنت في حيرة ، كيف أرفض هذا التكليف وكيف أبتعد عن رنا أسبوعين ؟ وفي خضم حيرتي وأنا أجلس بمكتبي ، وجدت رنا تقتحم عليَّ الحجرة وهي فرحة سعيدة وهي تبارك لي اختياري للسفر ، وفي غمرة دهشتي سألتها: لكن كيف عرفت ؟ غمزت بعينها وهي تقول : وهل تظن أن شيئاً يتعلق بك ممكن ألا أعرفه ، أردفتُ : ولكني ما زلت أفكر ، صاحت رنا وهي مندهشه : تفكر ؟ فقلت لها : أنا لا أستطيع أن أبتعد عنك كل هذه المدة ، ضحكت ضحكتها الأنثوية الرائعة وهي تهمس : ولا أنا أستطيع ، لكنها الظروف وسنقبل تحديها لنا ، لا تتصور كم فرحت لك يا أكرم ، وأظنك ستحقق الكثير فأنت بقلمك الرشيق وقامتك السامقة ستقدم الكثير لنا من خلال ما ستقوم به ، أنا واثقة من هذا ، كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تخرجني من حيرتي وترددي ، ابتسمت رنا وهي ترى علامات الراحة والهدوء على وجهي ، ثم سألتني : ألهذه الدرجة تحبني يا أكرم ؟ فأمسكت بيدها وأنا أضمهما إلى صدري وأقول: بل أكثر بكثير من أي تصور .
كان السفر سريعاً فلم أجد الوقت لتوديع رشدي وسناء وليلى وصلاح إلا تليفونياً ، أما رنا فقد اصطحبتني إلى المطار ، وقبل أن أتركها قالت : لي طلب عندك ، أولاً تعتني بنفسك جيداً وتحذر من البرد ، ثانياً أريدك أن ترسل لي كل يوم رسالة على الميل ، لا أريد أن أحرم منك ومن أحرفك ، توقفت الأحرف بحلقي وغادرتها وشوقي إليها يكاد يقتلني ، طوال رحلتي بالطائرة لم يفارقني طيف رنا ، وحين وصلنا إلى الفندق كان أول شيء فكرت فيه أن أرسل إليها رسالة كما وعدتها بالمطار فكتبت لها :
حبيبتي الغالية! بداية لا أود أن تكون رسائلي هذه رسائل عشق بل هي تأريخ لعلاقتنا الرائعة التي أراها من أجمل ما حدث لي وهي علاقة رائعة لكونها سمت بمشاعرنا وزرعت السعادة بقلوبنا ونمت وأزهرت دون قصد منا سوى ميل قلوبنا وتوافق أرواحنا.
حبيبتي ! أقول هذا لأني أرى أن رسائل عشقي إليك يجب أن تسطر على وجه القمر ، وفوق جبينك وعلى خارطة جسدك الذي أعشق ، رسائل عشقي التي أرغب في بثها لن تتحملها أوراقي ، ولن تستطيع أحرفي أن تنقلها عبر الأثير ، فعشقي لك يا سيدتي وأميرتي الغالية هو عشق الأريج للزهرة ، وحبات المطر للسحاب ، وأجنحة الطير للتحليق ، هو عناق الأحرف للمعاني ، والصدق للأماني ، هو مقاربة الضوء في عين الجمال ، والإبحار عبر بوابات الحلم إلى مدائن الشوق .
بعدما أرسلت رسالتي وارتحت قليلاً ، قمت أتفقد قاعة المؤتمر وأعد لليوم الحافل غداً في افتتاح المؤتمر الذي سيحضره كبار زعماء العالم ، حين عدت إلى غرفتي وفتحت الرسائل وجدت رسالة من رنا قرأتـها أكثر من عشرة مرات وكل مرة تفاجئني بجمال إحساسها وصدق مشاعرها كتبت رنا تقول :
عشقى وحبى وحلمى الأول أقولها لك بملء قلبى أحبك ، أحبك ، وأنت لى كل شىء ، أحبك رجلاً صبوراً حبيباً رقيقاً قلباً كبيراً يحتوينى بالرغم من بعده ، يضمنى ويدفئنى فى لحظات قاسية حتى وإن لم تعلمها فأنت معى فى كل وقت ، فى فرحى وفى حزنى فى كل لحظة أعيشها أتنفس حبك فى هوائى .ألتمس دفئاً من صوتك عندما أشعر به يقول لى اطمئنى أنا بجانبك ، ظللت أحلم بيوم يجمعنى برجل عطوف حنون يحتوينى ويعرف كيف يداوى ما فعله الزمن بى ولم أكن أصدق عندما قابلتك بأن رجلاً مثلك سيحب فتاة بسيطة مثلى ، رجل يحمل فى قلبه الرقة والحب والطيبة ويتمنى أن يملأ حياة من يحبها بهم ، كنت فى غاية سعادتى عندما كنت أتحدث معك كل يوم ، وينتابنى شعور غريب بالراحة والسكينة إليك ، أحبك ولم أعرف معنى الحب إلا معك فستظل أول وآخر رجل أعطيه قلبى وأنا راضية مطمئنة عليه معك ، أحبك فهل تدرك معناها بالنسبة إليَّ ؟ إن لم تكن تشعر بها فستعرف معناها قريباً ، أحببتك ولن أحب سواك ولن أعيش أيامي إلا معك ، أحبك ولن أرتضي بسواك.
وختاماً سأكتب نصف الشهادة وأنت لك النصف الآخر فإنها تجمعنا فى كل مرة نقولها فلا تنفع الشهادة بنصفها الأول فقط ولن أعيش أنا إلا بنصفى الآخر
لا إله إلا الله
أحبك كثيراً وأحتاجك قلباً رقيقاً يحتوينى
كانت تلك كلمات رنا التي شعرت بنشوى تملكتني وأغمضت عيناي وأنا أحاول أن أتخيل مستقبل علاقتنا أنا ورنا واليوم الذي سيجمعنا في بيت واحد ويتحقق حلمي ، وحلمها في القرب والسعادة التي يتمناها كل منا للآخر قمت بالاتصال برنا وأتى صوتها دافئاً لكن به القليل من الشجن ، حاولتْ إخفاءه وهي تطمئن عليَّ وتطمئنني على نفسها وتتمنى لي التوفيق ، بعدما انتهت المكالمة وجدتني استسلم للنوم .
في صباح اليوم التالي قمت مبكرا وقد تملكني النشاط وأنا أستعد لأول أيام العمل الجاد ، لكنني لم أنسَ وعدي لرنا فقمت بسطر رسالة إلى رنا على الميل قلت فيها :
حبك يا سيدتي هو ميلاد وموعد مع السعادة ، طوق نجاة لقلب عاش ينتظر البشارة ، لقلب كان يحتضر حتى أظلته رحمة ربه بترياق حبك ليتعافى وينطلق في مشوار السعادة التي سيحياها من جديد بصحبة قلبك الذي يشع نوراً ويفيض جمالاً ، ويستضيء من روعة رقتك ودفء مشاعرك ، ليواصل رحلة حبه التي أعادت إليه الحياة.
لأول مرة تقف أحرفي عاجزة عن إخراج مكنون نفسي ، واقفاً متأملاً ذاتي وهي تعيش أحلى اللحظات وأنا أفكر فيك وأنا أتخيل حياتي معك وبك ، مررت بالكثير من الظروف والتجارب التي كانت تمر دون أن تترك أي أثر ، ثم أتيت أنت بإشراقتك التي أطلت لتملأ حياتي سعادة وتضفي عليها الكثير من البهاء والدفء وتنير جنباتها التي ظننت أنها ستظل معتمة ، فإذا بك تعطرين أركان حياتي بمشاعرك التي فاضت كنهر رقراق أعاد الحياة إلى قلبي.
أنهيت رسالتي وقمت أستعد لبدء عملي ، كانت الجلسة الافتتاحية هادئة وكلمات الرؤساء بسيطة وترحيبية واقتصرت الجلسة الأولى على عدة ساعات عدنا بعدها إلى الفندق ننتظر لنتابع الجلسة الرئيسية .
في المساء حين وصلت إلى حجرتي وقبل أن أطلب الطعام طالعت رسائلي فوجدت رداً من رنا ، أسعدني كل حرف من حروفه ، وجلست أعيد قراءتها كما فعلت في رسالتها الأولى ، كتبت رنا :
حبيبى الذى لم أحب غيره ولم ولن أتمنى سواه أريد أن أكتب لك اليوم فقط لتعرف أننى لم أعرف معنى الحب والسعادة إلا معك لم أبكِ على شيء سوى بعدك واحتياجى إليك ولهفتى وشوقى إلى رؤيتك ، أحتاج إليك قلباً حنوناً ، يداً تداوى الكثير من الألم، قلباً يشعرنى بأنى لا زلت أحيا دنياى الرقيقة التى لا أعرف فيها معاني الكراهية أحببتك قبلاً لحبك الكبير ولكنى الآن أحب كل تفاصيل حياتى معك منذ أول لحظة فى يومى حتى تغمض عينيك وأنا بجانبك أنظر إلى طيفك ، فأنا لا أستطيع النوم وسأظل أنظر إليك حتى أتاكد أنك بالفعل هنا بجانبى تحتضننى تملأ الكون عليَّ بطيبتك وحنانك وروعة حبك وحلمك .
( حبيبى) والتى لم أعرف معناها وكيف تقال إلا معك ، سأظل أحبك ما حييت حتى وإن فرقتنا الدنيا فستظل أنت كل ما تمنيت وكل ما عشت لأجله لم أكن أعرف الحب ولا سبباً لحياتى إلا بعد أن عرفتك ، عرفت أنى وجدت فى هذه الدنيا لأجلك لتملأ حياتى بك وأملأ دنياك بحبى ، أتمنى لو أستطيع أن أعطيك عمرى وكل ما أملك لكى تعرف أنى أحبك بصدق ، أحبك وأعرف قدر حبك لى ولكني سعيدة بك وبنفسى بعد أن عرفت أنى لا أستطيع العيش بدونك لن أقول مثلك أحبك وكفى فحبى لن يكفيك ، ولا أستطيع أن أقول أن ذلك يكفى فأنت تستحق الكثير على ما وهبتنى من عطف وحب وحنان تمنيته.
أحبك فارسى ، أحبك حياتى وعمرى وأنت لى الآن كل شيء لا أستطيع أن أكتب أكثر فبداخلى الكثير لك أتمنى لو أعطيه لك من غير كلمات ، أحبك وإن كانت صغيرة فهى الوحيدة التى أستطيع أن أقولها لك ، أحبك ولا يكفيك الحب والعمر يا كل ما تمنيت ، أحبك عقلاً وقلباً ، روحاً وجسداً ، أحبك وإن كان حبى يملأ الكون فلن يوفيك حقك عليَّ ، أعشقك وإن كان العشق أكبر من الحب وتعداه فعشقى لك لن ينتهى ، لى عندك قلب أخذته ولن أستطيع استرداده ، فقد ملك الدنيا بك ولن أستطيع أن أحرمه من الحياة لديك ، اللهم اجمعنى به فى رضاك وتحت ظلك ولا تفرقنا ما حيينا .
أحبك ولن أكتفي
كانت جملتها الأخيرة من الجمال بمكان حتي أنني جلست أتعجب من كيفية صياغتها بهذا الجمال وتلك الرقة ، كان ما بيننا أنا ورنا قد تعدى حالات الهيام والعشق وقفز فوق سور الحب وسطر فصلاً جديداً في تاريخ العلاقات الإنسانية بمشاعر لم تعش من قبل وروعة لم توصف يوماً أو تستطيع أية مفردات أن تفيها حقها ، جلست أحاول أن استجمع أحرفي كي أسطر رداً على رسالتها لكنني وقفت كثيراً وأنا استشعر عجزي عن مجاراة هذا الإحساس الراقي الذي أتى بتلك الكلمات الأكثر من رائعة ، ثم أخيراً وجدتني أبدأ في سطر أحرفي إليها فكتبت :
كلمة أحبك أصبحت لا تمثل شيئاً من قدر المشاعر التي أكنها لكِ ، وأحسبها بسيطة وقليلة على وصف مشاعري تجاهك، ، أتمني لو وفقنا الله لإتمام ارتباطنا ، ولأني أعرف أن قدر الله به من الرحمة والإكرام لعباده ما يتسع لنا ولغيرنا ، فأنا أطمع في توفيق الله وكرمه ، أنا راض عن نفسي وعن صدق علاقتي بك وسعيد بمشاعرك التي لم أصادف أصدق و لا أجمل منها ، حبيبتي لم يعد طيفك يفارقني للحظة وأصبحت لا أعرف كيف أحدث حبك كل هذا التغيير في ذاتي وكيف لم أعش تلك المشاعر طوال حياتي ، وكيف كنت أكتب طوال الوقت عن المشاعر وروعة الحب وأنا لم أعشها بعد ، حتي أنني توقفت الآن عن الكتابة لألتقط أنفاسي وأحاول أن أكتب من جديد عن الحب الذي عرفته بين يديك ، والذي عرفته معك فقط ، الحب الذي يعبر الأزمنة والمسافات ويلقي بظلاله على القلوب ، الحب الذي ينمو كل لحظة دون توقف ودون أن يكون وراءه أية منفعة أو هدف إنما هو سامٍ في ذاته راق في سموه مهما حاولت سطر أي حرف فسيبقى ما بداخلي أكبر وأعظم من أي وصف أو حرف ومهما حاولت أن أعبر لك عما بداخلي فلن أفلح وكأني أحاول إخراج مارد من ثقب إبرة.
بقي أن أقول لكِ أنكِ نسيج متفرد ، أنثى بحالة خاصة ، تقترب من درجات الكمال ، وتنفرد بكونها الأكثر دفئاً وصدقاً وحباً ، وأنا إذ أعشق كل مفرداتك وأعايش رقتك وجمالك كل لحظة إلا أن شوقي إليك وإلى الجلوس بين يديك والنظر في عينيك يكاد يقتلني ، أحلم بك وبلقائنا كل لحظة ، لن أزيد ، فلو بقيت أكتب ما انتهت أحرفي وما زاد إلا شوقي مع كل حرف أسطره ، فقط أقول لك أنك أجمل ما حدث لي من يوم خلقت وأرق ما صادفني وأحب من عرفت .
أنهيت رسالتي ونزلت من فوري إلى قاعة المؤتمر ، كانت الوفود حاضرة جميعاً وكان الزحام شديداً والإجراءات الأمنية مشددة ، وعقدت أولى جلسات العمل وكنت حاضراً أتابع فاعليات المؤتمر وأنا منصت ومسجل لكل الأحداث الهامة فيه ، وتتابعت النقاشات وتتالت الكلمات وقد شعرت بأن هذا المؤتمر لأول مرة سيقدم شيئا للدول الفقيرة أو بمعني آخر سيكون له نصيب من النجاح على المستوى الدولي وهذا سينعكس بالتالي على نجاح عملي ونجاح الصحيفة ، فزاد هذا من إحساسي بالسعادة التي كنت استشعرها بعد قرائتي لأحرف رنا ، لكن على جانب آخر كان يتردد في كواليس المؤتمر أخبار عن وجود إرهابيين وتهديدات وصلت إلى منظمي المؤتمر ، وقد كان لهذا أثر سيء على فاعليات المؤتمر والتي كانت خاضعة لكثافة أمنية واستخبارتية أشعرتني بالضيق والملل ، لكنني بعد انتهاء الجلسة سارعت لإرسال تغطية كاملة للصحيفة عن فاعليات واجتماعات اليوم الأول وبعد انتهائي بدأت في تصفح الميل الخاص لأجد رسالة من رنا كانت قصيرة لكنها كانت تفوح حباً وعشقاً ، كتبت رنا :
أحبك ولن أكتفي سأظل أقولها لك
حبيبى وملكى ومولاى وكل أملى فى الحياة
أحبك ولن أكتفي بالأيام الباقية بعمرى فقط لأعطيها لك
أحبك ولن أكتفي بحضنى فقط ليحتويك
أحبك ولن أكتفي
وإن كنت قد اكتفيت بحبك عن كل شىء
اكتفيت من دنيتى وأهلى وحياتى بك
اكتفيت بقلبك عن حياتى فسلمتك كل حياتى وقلبى
أحبك وإن كانت صغيرة صامتة عن قول ما بداخلى
فقد اكتفيت من بعدك ومن بعدى
هذه رسالتى الثالثة أكتبها بعد انتصاف ليل الإسكندرية بنصف ساعة أيقظنى قلبى لأكتبها بالرغم من أنه لا ينام ، ولكن أردت أن أقول لك فقط أنى أعشقك وأعشق يوم عرفتنى ويوم ولدت لأنى قابلتك بعده.
أختم رسالتى إليك بما سأظل أقوله وأوصف به ما بداخلى
أعشقك ولم ولن أكتفي
كانت كلمات رنا الرقيقة والدافئة دافعاً ومعيناً لي كي أتحمل بعدي عنها ، وكانت أحرفها تفجر بداخلي أجمل المشاعر وأجدني راغباً في استخراج مكنون نفسي التي تجيش بالحب بعدما تصافح عين أحرفها المفعمة صدقاً ، فأبدأ في سطر كل مشاعري كلمات في رسالة لرنا أبثها فيها بعضاً من شوقي إليها فكتبت :
لأميرتي الصغيرة أكتب ، وأنا الذي كان الحرف طوع بناني ، اليوم لا يستطيع حرفي أن يعبر ولو عن قليل مما بداخلي ، تغيرت الخارطة بداخلي والاتجاهات صارت كلها شمالية جهتك أنت ، معطرة بعطرك أنت ، وموشومة بصورتك أنت ، أيتها الغالية ، يا حوريتي النائمة في أعماق القلب ، والمتدثرة بمشاعري التي عانقت بدفئها رقتك .
تحملين دوماً البشارة ، وتنثرين عبيرك فوق قلبي بأحرفك التي تقطر عذوبة ، أتمنى لو أحيل قلمي ريشة ترسم عينيك وبسمة ثغرك بأحرفي ، وتكتب حبي كما أحسه لا كما تصوره الأحرف بعجز ، يا من غرست بقلبي بذور الحب وسقتها بماء الصدق ورعتها بحنانها وأدفئتها بقلبها، أعشقك ، وأتمنى لو أحتويك بحضني ، وأسافر بك عبر مدن الحلم إلى آخر بلاد العالم ، لأخبر الجميع بحبي لك ، وأبتعد بك ، لأعيشك أنا ، وأسعدك أنا ، وأحملك فوق حلمي أنا ، أحبك ولن أكتفي من حبك ولن أكتفي بحبك لأني أعشق قربك ولأني أريد أن ألتحفك في الصيف وأفترشك شتاء فأنت أرضي وسماءي وأنت حلمي الذي تحقق بعد طول انتظار .
أنهيت رسالتي وأسلمت نفسي للنوم ، وقد كنت مرهقاً من عناء اليوم وكنت أعرف أن الغد يحمل الكثير ، وسيكون هناك لقاءات ثناءية يجب أن يتم متابعتها واحداً تلو الآخر ، ولقاءات كثيرة تم ترتيبها لنا مع كل رؤساء البعثات ، لذا لم أشعر إلا والباب يطرق حيث كنت طلبت منهم أن يوقظوني لأصلي الفجر ، قمت وبعد أن اغتسلت وصليت ، جلست أتلو بعض القرآن ، وبدأت في تحضير أغراضي ونزلت إلى بهو الفندق الذي كنا نقيم فيه ، تناولت قهوتي ثم توجهت إلى أولى القاعات التي كان سيعقد فيها اللقاء الأول لمناقشة خطة العمل التي طرحت من قبل أحد الوفود ، لم تكن الجلسة طويلة ، بعدها انتقلنا إلى القاعة الرئيسية التي كانت مخصصة لالتقاء رئيس الولايات المتحده بالرئيس الروسي ، وقد كانت إجراءات التفتيش والأمن قاسية جدا حتى أن بعض الصحافيين قد ضاق ذرعاً بها وحدثت عدة مشادات ، تدخل على أثرها الأمن الرئاسي وممثلو وزارة الخارجية ، وبعد أن تم تسوية الأمر بعدما وعدنا كصحافيين باستثنائنا من تلك الإجراءات وتسهيل الأمر علينا .
بعد استراحة الغداء توجهنا جميعاً إلى القاعة الصغرى التي كانت ستضم فاعليات الندوة المشتركة بين دول الشمال والجنوب والتي كانت ملقاة على هامش هذا المؤتمر ، ورغم ذلك فقد كان الحضور لهذه الندوة كثيفاً نظراً لأهمية ما ستتمخض عنه من قرارات وأيضاً لمشاركة وفود عدة في تلك الندوة ، وبدأت الفاعليات هادئة ومنظمة ، لكن فجأة سمعنا دوي انفجار في نهاية القاعة ، تبعه تدخل مكثف لرجال الأمن ، لكن الانفجار تبعه آخر أكثر شدة ، كان آخر شيء سمعته ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك .
حين أفقت وجدتني ممدداً على سرير في أحد المستشفيات ، وبجواري أحد الزملاء ، والذي عرفني إلى نفسه :عدنان صالح صحافي عراقي ، أشرت إليه أحييه وأنا أتم تعرفي بنفسي : أكرم فوزي صحافي مصري ، ضحك وهو يقول : غني عن التعريف يا أستاذ أكرم ، تحدثنا قليلاً وكانت إصابته أخف ، فحكى لي أن الانفجار الثاني الذي كان شديداً قد أوقع حائطاً مشيداً وقد تطايرت بعض الكراسي أفقدت البعض الوعي أعتقد أن هذا ما حدث لك ، وجدتني أتذكر انتصار فقلت له : أتعرف الكاتبة انتصار الأنباري ؟ فهز رأسه في أسى وهو يقول : ومن كان لا يعرف انتصار ؟ لقد كانت من أروع النساء اللاتي قابلتهن ، لقد كانت حالة خاصة ونادرة ، استوقفته وأنا أتساءل لمَ يقول كانت ، دمعت عيناه وهو يقول : ألم تعرف بموتها ؟ لقد وافتها المنية منذ أسبوع لقد كانت مصابة بالسرطان ، وقع كلامه على رأسي كالمطرقة ، كنت أعرف أنها مريضة ولكن لم أتصور أن يفترسها الموت بسرعة هكذا وأنا الذي أتذكرها وهي معنا وكأنه أمس ، انفجرت باكياً وقلبي يعتصره الحزن على رفيقة عمر ، وتوأم روح ، كانت انتصار بكل ما بيننا من ذكريات صخرة شامخة ، ورغم علمي بمرضها إلا أنني لم أتصور يوماً أنني سأفقد هذا الكيان الرائع ، انتابتني حالة من الحزن الشديد ، الذي صاحبه بكاء شديد ، همس عدنان بعدما رأى حالتي : يبدو أنك كنت تعرفها جداً ، أجبته وأنا لا أكاد أتمالك نفسي : لقد كانت أقرب لي مما تتصور ، كانت صديقة مقربة ورفيقة درب .
قبل أن نسترسل في حديثنا أتى الطبيب وأخبرنا بأن الإصابات بسيطة وهي نتيجة لشظايا الانفجار ، ثم أخبرنا بأننا سنمكث عدة أيام لنغادر بعدها بعد إجراء الفحوصات والأشعة اللازمة ، طلبت من الطبيب أن يسمح لي باستعمال هاتفي فأحضره لي ، حين أطل صوت رنا باكياً على الطرف الآخر ، أدركت كم تسببت لها من حزن ، ضحكت ودموعها تنساب فرحة وهي تتحدث بسرعة متسائلة عن كل شيء ، صمتُّ قليلاً ثم أجبتها بكلمة واحدة : وحشتيني يا رنا ، فأتى صمتها على الطرف الآخر برهة ، ثم سألتني : ما بك ؟ صوتك حزين ، فأجبتها : وقد عادت الدموع تترقرق في عيناي : لقد رحلت انتصار عن دنيانا يا رنا ، صمتت رنا قليلاً قبل أن تهمس : البقاء لله ، ادعُ لها يا أكرم ، ليتني كنت بجوارك الآن يا حبيبي ، ثم تنهدت وهي تهمس : متى ستعود ؟ لقد اشتقت إلى حضن عينيك .
بعدما خرجت من المستشفى لملمت أوراقي وأفلت عائداً إلى الوطن ، كانت رنا في انتظاري بالمطار ، احتضنتني عيناها بكل حب واصطحبتني وهي تتأبط ذراعي بفرحة طفولية كانت تتقافز من عينيها طوال طريق عودتنا من المطار إلى البيت ، حين دلفنا من الباب ، فاجئتني رنا وارتمت في حضني وهي تبكي وألقت برأسها فوق كتفي ، أخذتها بين ذراعيَّ وضممتها إلى صدري وأنا أحاول تهدئتها ، بعد أن هدأت قليلاً جلست أمامي وهي تقول : ماذا كنت تنوي ؟ هل كنت تنوي الرحيل عن هذا العالم وتتركني وحيدة ؟ يا أكرم أنا لا عيش لي بعدك في هذا العالم ، أنت عالمي ودنيتي ، لقد كدت أجن حين سمعت ما حدث ، وحاولت الاتصال بك ولم ترد ، لقد مرت عدة ساعات كانت الأسوء في حياتي حتى سمعت صوتك . تبسمت وأنا أنظر إلى الحب في عين رنا ، ثم قلت لها أما آن الأوان كي نجتمع في بيت واحد ، أطرقت إلى الأرض ، فأكملت : هل هذه موافقة ؟ رفعت رأسها وأتت بايمائة رقيقة ، فقمت إليها وقبلت رأسها وأنا أقول : ليكن زفافنا بعد شهر من الآن ، تبسمت وهزت رأسها موافقة .












الفصل الرابع




بعد أن عرف الجميع بخبر وفاة انتصار وما خلفه هذا من حزن ، شعر الجميع برغبة ملحة في التواصل ، وبدأت أواصر الصداقة التي كانت ضعفت قليلاً تعود إلى سابق عهدها من جديد ، لكني لاحظت وجود خلافات كانت تطفو على السطح بين الحين والآخر بين سناء ورشدي ، ولم أشأ التدخل لأني شعرت برغبتهما في الاحتفاظ لنفسيهما بخصوصياتهما ، لكن ليلى هاتفتني يوماً وهي تطلب العون ، وفهمت أن سناء ذهبت إليها وهي في قمة غضبها باكية ، وطلبت ليلى أن أقابل رشدي لأفهم منه سبب الخلاف ونسعى إلى حله ، طبلت مقابلة رشدي ، وقد وجدته حزيناً غاضباً هو الآخر ، فسألته عن سبب الخلاف ولماذا يحدث هذا بعد كل تلك السنين ، صمت رشدي قليلاً وهو يحاول أن يبدو هادئاً ، لكني حاولت أن أثبر غور نفسه وأعرف سبب الخلاف الذي ظهر فجأة ، ضحك رشدي ساخراً بعد أن سمع كلمتي )فجأة (، وكررها بسخرية ، ثم اعتدل في جلسته وهو يقول بصوت متقطع : لقد كنت لا أود أن أخوض في هذا الحديث ، لكن طالما أنك عرفت بأمر خلافنا فلابد أن تكون سناء قد حكت الحكاية وأنا لي حق أن أوضح لك ، وحين حاولت أن أقاطعه ، وأنا أقول إن سناء لم تحكِ شيئاً وأننا لا نود سوى أن يجلسا مع بعضهما لإنهاء المشكلة ، ضحك بسخرية من جديد ، وهو يصرخ : اسمعني يا أكرم سأحكي لك الحكاية كاملة وسأرضى بحكمك ويشهد الله على أن كل كلمة أقولها صادقة .
وبدأ رشدي يسرد الحكاية قال : تعلم قصة حبنا أنا وسناء وكيف كانت أثناء وبعد دراستنا ، وقد فعلت المستحيل كي أتزوجها وقد كان ، وسناء كما تعلم ست جدعة ، ولا أنكر أنها وقفت بجانبي في بداية حياتنا وساعدتني رغم بعض الخلافات التي كانت بيننا ، إلا أنها كانت لا تعدو أن تكون خلافات بين زوج وزوجته ، وكنت أشعر بسعادة كوني تزوجت المرأة الوحيدة التي أحببتها ، لكن لم تمر السنة الأولى حتى وجدت سناء تتغير كثيراً خاصة بعدما أنجبنا ابننا الوحيد ، وأصبحت تهمل في ذاتها ، ولا تهتم بي أو ببيتها ، حتي نفسها ، كنت لا أرى الجانب المضيء من سناء إلا في المناسبات ، أو حين كان يزورنا أحد من أقاربها أو أقاربي كنت أجدها تهتم بنفسها وزينتها ، تبدو على أحسن ما يكون ، وكنت أتعجب ، أهؤلاء أهم مني لديها ؟ وإحقاقاً للحق لم تكن دوماً هكذا كانت أحياناً تهتم بنفسها وكنت أشعر أننا سنبدأ صفحة جديدة ، لكنها كانت لا تلبث أن تعود كما كانت بل أحياناً أسوأ ، وقد كان يزعجني هذا التقلب ، ويزعجني أكثر شدة اهتمامها بنفسها وزينتها أمام أقاربها من النساء أضعاف المعتاد ، كنت أشعر أنها مريضة نفسياً ، لكني كنت أحياناً أرجع السبب إلى عيب في نفسي أو لكوني لا أعرف كسب حبها والاستحواذ على اهتمامتها ، لكن الأمر بدأ يتعدى مجرد الإهمال في مظهرها إلى إهمالها في مقتضيات العلاقة الخاصة بيننا ، وأصبح طلبي لها بمثابة توسل يومي ، وبدأت حججها تزداد ورغبتها تقل تدريجياً في هذا الموضوع حتى تلاشت أية علاقة حميمة بيننا ، وتعذر التواصل بيننا وبدأت مشاعري نحوها تفتر ، لكن وجود ابننا كان يحفزنا على الاستمرار ، وكما قلت هي كانت تقوم بكل واجباتها عدا ما ذكرت ، تعرف أن سناء من يومها سيدة منزل من الطراز الأول ، يشهد على ذلك الطواجن اللذيذه التي كانت دوماً تتحفنا بها ، لكنني كرجل بدأت أمل هذه الحياة ، ولا أخفي عليك أنني خضت بعض المغامرات فتعرفت إلى نساء أخريات وكنت لا أود أن أسلك طريق الحرام بل كنت أسعى إلى الزواج ، وقد كانت سناء بحاستها الأنثوية ما أن تشعر بتغيير وتشتم رائحة أنثى ، إلا وتسارع إلى تصحيح الأوضاع فأعيش شهراً أو شهرين زوجاً سعيداً يجد كل ما يريد من زوجته ، ثم ما تلبث أن تعود كما كانت بعد أن تطمئن لزوال ظل الأنثى أياً كانت من حياتي ، كانت حياتنا تسير على هذا النسق سنين ، حتى سافر ولدنا لاستكمال تعليمه ، وأصدقك القول أنه كان يهون علينا كثيراً ويساعدني على الاستمرار ، لكن بعد فراقه لنا اتسعت الهوة ، لم أعد أستطيع الاستمرار ، أنت رجل وتفهمني ، ليس مطلوب مني أن أصبر على حياة كهذه ولا على مثل هذه التصرفات .
صمت رشدي قليلاً وهو يحاول أن يكبح جماح لسانه بعد أن شعر بصمتي ، ثم نظر إليَّ ، أشرت إليه أن يكمل ، فزم شفتيه قليلاً ثم استطرد قائلاً : لو كنت مكاني ماذا كنت ستفعل ؟ قلت مازحاً وأنا أحاول أن أهدئ التوتر الذي بدا على رشدي : أنا لست مكانك ، ثم أكملت : أولاً يا صديقي أريد أن تتم لي الحكاية وأعرف السبب الرئيسي الذي من أجله تفجرت تلك المشكلة بهذا الشكل لأول مرة ، ثانياً أريد أن أعرف هل هناك مجال للإصلاح أم أنك تحكي لي مجرد تحصيل حاصل وقد اتخذت قرارك النهائي بالابتعاد ، ثالثا وهو الأهم يجب أن أعرف أسباب سناء وهذا حقها عليَّ كصديق ، ثم بعد ذلك أقول لك رأيي ، أليس هذا هو العدل ؟
هز رشدي رأسه في سخرية ونظر إلى الأرض ، ثم ما لبث أن رفع عينه إليّ وأخذ يكمل : اسمع يا أكرم ، أولاً لك الحق في ألا تتخذ جانب طرف دون الآخر ولك الحق أن تستمع إلى سناء فأنت صديقنا ، وسأكمل لك الحكاية ، لكن فيما يخص النقطة الثانية نعم لقد اتخذت قراري ، لست على استعداد لأن أضيع ما تبقى من عمري مع سناء ، يكفي تحملي لعلاقتنا ولتقصيرها معي طوال كل تلك السنوات ، أنا أريد أن أعيش ، أن أتمتع بما تبقى لي من أيام ، قد تتهمني بأن وراء قراري هذا إنسانة أخرى ، لكني أطمئنك ليس هذا هو السبب ، وأنا قصدت أن يكون انفصالنا بدون أن توجد أسباب نعلق عليها سبب فشلنا في الاستمرار ، لعلك تفهمني .
أود أن أسالك سؤال يا أكرم ، أو لنؤخر هذا السؤال حتى أكمل لك الحكاية كما طلبت أنت ، لكني قد جلست إلى نفسي طويلاً وتساءلت لماذا نتزوج ؟ ولماذا نبدأ في الالتزام ببيت وأسرة وتحمل تبعات هذا القرار؟ ووجدت إجابات كثيرة بعضها شرعي كإعمار الأرض وتحقيق أسباب العفة ، وبعضها اجتماعي كالعيش في إطار أسري وتبادل المشاعر الإنسانية والعلاقات الاجتماعية ، وبعضها خاص كالتمتع بنعمة الولد والتلذذ بإقامة علاقة حميمة في إطار شرعي مع ما يوفره هذا من تأجج المشاعر من إشباع عاطفي وجنسي يعود بالخير على الشخصية السوية .
المهم أنني خلصت إلى سبب بقائنا أنا وسناء لهذه الفترة متزوجين ، ربما لأننا حققنا شقاً أو شقين مما سبق وذكرته ، لكن المنظومة لم تتحقق كاملة ، الأسس لم تكتمل ونتج عن هذا أن البناء الذي حاولنا تشييده على مدار سنوات كان بلا أساس كامل وهذا ربما السبب في انهيار العلاقة ، بمعنى أدق إذا استمرت العلاقة عرجاء ولفترة طويلة ، كعلاقتي بسناء التي ارتكزت على المصالح المادية المشتركة بعد سنتين من الزواج فقط وأصبحت خالية من الرومانسية والعاطفة التي جمعتنا في الأصل ، سناء طغى عليها حبها للعمل ورغبتها في النجاح وهذا سرقها من طريق حبنا ومن أداء واجباتها نحوي ولا أخفيك أنني ربما ساعدت في هذا لأني رضيت ولم أعترض ، بالعكس كنت أؤكد على أن نجاحها هو نجاح لنا ، وهي انساقت وراء تشجيعي فأخذ العمل كل وقتها وأصبحت تأتي منهكة ، ولا تفكر في إشعال جذوة الحب التي بدأت تخمد ، وأصبحت ليالينا باردة ، وأيامنا تمر بجفاء ، واكتسبت من قسوة الحياة الكثير.
بدأت أشعر بالملل وبدأت مغامراتي ، فتعرفت على امرأة مطلقة ، كانت تعيش حالة فراغ عاطفي ، وسرعان ما وجدنا أنفسنا نتقارب ، وأصبحت ألتقيها بصفة دائمة ، لم تلحظ سناء في البداية ، لكنها بعد فترة قصيرة وبحاسة الأنثى بدأت تسألني عن كثرة خروجي وتأخري ، لكنها لم تبد أية شكوك ، وكما قلت لك بدأت تهتم قليلاً بنفسها وزينتها ، وبدأت هي من تبادر إلى دعوتي للفراش ، وقد استمر هذا التدليل ، ولم أقطع علاقتي بتلك المرأة ، ولكن قللت من سهري في الخارج ولقاءاتي بها ، وقد حدث ما توقعت لم يدم الأمر طويلاً فقد عادت سناء لما كانت عليه بعد شهر تقريباً ، ولاحظت أنها حين تجد الوقت لديها تكرسه لابننا ، لم أهتم بانصرافها فقد كنت بدأت أفكر في الارتباط بتلك المرأة ولو سراً ، كنت أبحث عن الدفء الذي فقدت ، لم أتحدث لأحد ، وبدأت فعلاً في ترتيب أموري ، وفي نفس الوقت كنت أريد أن أبقى على العلاقة بيننا أنا وسناء من أجل ابننا ، لكنني فوجئت بغيرة تلك المرأة بعدما تأكدت من عزمي على الارتباط بها كانت غيرتها عمياء ، وشعرت أنها ستدمر حياتي وعلاقتنا بغيرتها الشديدة ، لذا فقد ابتعدت عنها بعدما حدث خلاف في عدة نقاط تتعلق بتقسيم الوقت بينها وبين سناء وأشياء أخرى كثيرة .
لم تشعر سناء بشيء في تلك الفترة وكان هذا غريباً ، ربما لحرصي الشديد على تكتم الأمر وربما لأنها كانت منشغلة عني أصلاً ، مرت عدة أشهر حاولت أن أحدث تغييراً لعل الأمور تنصلح بيني وبينها ، فأخبرتها أنني حجزت لنا في مصيف لتمضية إجازة والابتعاد عن العمل ومراجعة حساباتنا ، شكرتني وأبدت سعادة غير متوقعة ، لكنها ما لبثت أن عادت لاهتمامها بعملها حتى أثناء الإجازة ، ورغم اعتذارها المتكرر لي ، إلا أنني كنت قد تعرفت على جارة لنا في المصيف عن طريقها ، كانت تمضي معي طوال النهار ، وشعرت براحة كبيرة في الحديث معها ، واقتربنا فكرياً من بعضنا ، وفي ليلة كنت أسير معها على شاطيء البحر ، حين اقتربت منا سناء وهي ثائرة وبدأت في مهاجمة السيدة بأفظع الشتائم واتهمتها بأنها تريد خطفي منها ، وبين دفاع السيدة المذعورة من ثورتها وهروبها من أمامها وبين اندهاشي من تصرفها الذي لم أجد له مبرراً وقتها ، كنت أشعر بسعادة وأنا أراها لأول مرة تظهر الغيرة عليَّ ، وقد أسعدني هذا وحسبت أن تغيراً كبيراً قد طرأ على حياتنا ، أمضينا باقي الإجازة في سعادة وكانت تستغل الليل لتقوم بالسباحة معي ، وعدنا كما لو أننا متزوجان تواً ، ولم يمر على زواجنا خمس سنوات .
بعد عودتنا إلى البيت ظلت سناء تحاول أن تكون الزوجة الرقيقة الراعية ، وكنت سعيداً بهذا وأحسست أن ما فعلت كان له أبلغ الأثر على علاقتنا ، لكن دوام الحال من المحال ، لم يمر شهران إلا وأتت ترقية لسناء في العمل ، بعدها بدأت أشعر بتغير كبير في طريقتها ، وأصبحت لا تبالي بمشاعري ، فكرت وقتها في الطلاق ، لكن شبح ابني الوحيد وحرصي على ألا ينشأ بعيداً عن أحد والديه جعلني أصبر وأستمر ، أعرف أن هذا خطأ ، الآن أعرف ، مرت السنوات ونحن على حالنا ، وكنت أصبر نفسي بالقول أن هذا حال الجميع ، وأحمد الله على نعمة الولد والصحة ، حين اقترب ابننا من دخول الجامعة ، بدأت أشعر براحة ، وبدأت أشعر أنه من حقي الآن بعدما أديت رسالتي أن أعيش حياتي كما أريد ، ساعد على هذا ظهور نادية .
صمت رشدي قليلاً وهو ينظر إلى الأفق عبر النافذة ، ولمحت في عينيه بريقاً وشعرت بسعادة لم أرها من زمن في وجهه ، سألته برفق : هل أحببتها يا رشدي ؟ لم يبعد عينيه عن النافذة وأجاب وكأنه يحلم ، هذه الكلمة ضئيلة جداً على ما أشعر به تجاهها ، هي إنسانة رقيقة دافئة تقطر حباً ، هي حلم يا أكرم ، ثم نظر إليَّ وهو يهمس هل جربت أن تحلم بامرأة في خيالك بها كل ما تريد ؟ إذا جربت فقد تستطيع أن تتصور بعض ما في نادية ، أشرت إليه أن أكمل ، وبدأ رشدي يتحدث ، كان كفنان يعزف سموفنية رائعة في وصفها وكان لجلال كلماته وجمالها وقع رائع على نفسي حتى أنني بدأت أتعاطف معه ومع علاقته بها ، كان رشدي يتحدث بشغف وعشق عنها ، قلت : وسناء ألم تكن تحبها ؟ انتبه إلى كلماتي ونظر إليّ غاضبا وهو يقول : شتان يا أكرم ، إنني حين أقارن مشاعري الآن مع مشاعري أيام تعارفنا وتزوجنا أنا وسناء ورغم ما كنا نعيشه من حالة حب أراها تتضائل كثيراً أمام شعوري بنادية ، ربما هي أنثى مختلفة ، واختلافها هذا يجبرك أن تحبها بطريقة مختلفة وتعشقها أيضاً بطريقة مختلفة ، قلت له : وماذا قررت ؟ نظر إلى الأرض وهو يتمتم : لا أعرف ، أنا في حيرة ، تصور؟ نادية تشترط علىَّ عدم تطليق سناء لكي ترتبط بي ، أشعر وكأنها لا تريد أن تكون السبب في انفصالنا ، رغم تأكيدي لها بأن هذا كان سيحدث لا محالة سواء ظهرت هي في حياتي أم لا ، لكنها مصرة على موقفها ، وعلى النقيض سناء تطالبني بالعودة وعدم الارتباط بنادية ، وتعدني بأن كل شيء سيتم إصلاحه وستقوم بكل ما يسعدني حتي أنها أبلغتني باستعداها لترك العمل إذا كان هذا سيرضيني ، وستنفذ كل ما يسعدني ، المهم أن نعود لبعضنا ونكمل حياتنا .
صمت رشدي قليلاً بعدما نقل لي الحيرة ، ثم هب واقفاً وهو يقول : آسف لقد صدعت رأسك بكلامي ، لكن ماذا أفعل ؟ أنت الصديق الوفي لنا ولا آمن أحداً على سري سواك ، فكر في الأمر واستمع إليها ، وسأنتظر ردك كما وعدتني ، لكن لتعلم من الآن أنني لن أتنازل عن حلمي بالارتباط بنادية ، ثم مد يده يودعني وأنا ما زلت غارقاً في أفكاري وحيرتي ، لكني كنت أود أن ألتقي بسناء لأسمع منها هي أيضاً لأكون حكماً وأحاول الإصلاح بينهما ، وإن بدا هذا الأمل ضعيفاً بعد ما سمعته في نهاية رواية رشدي ، لكني لم أيأس ، قمت من فوري بالاتصال بسناء لكنها لم ترد ، فقمت بالاتصال برنا ، أتى صوتها فرحاً وهي تقول : حالاً كنت أنوي الاتصال بك فسبقتني ، ثم سألتني عما تم مع رشدي ، وحين لم تسمع إجابة سريعة أدركت أن الأمور ليست على ما يرام ، سألتني إن كنت قد اتصلت بسناء ، فأخبرتها أنني حاولت لكنها لم ترد ، فقالت : اتصل بليلى فهي أكيد معها الآن ، كنت أود أن أتدخل لكنني أخشى أن تتعقد الأمور ، خاصة وهم لا يعتبرونني صديقتهم المقربة حتى الآن ، ثم سألتني: أما زلت على وعدك لي بنزهه الغد أم أن تفرغك لحل المشكلة قد غير الموعد ؟ أجبتها بهدوء :إنني لا أستطيع أن أحنث بوعد قطعته ، همست وهي تضحك ضحكتها الأنثوية الطاغية : أحبك ولن أكتفي ، فأجبتها : وأنا أعشقك .
بعدما أنهيت مكالمتي اتصلت بليلى وقد صدق حدس رنا فقد وجدت سناء عندها ، كان صوتها باكياً وهي ترد ، سألتها عن سناء فقالت إنها معها لكنها لن تستطيع الحديث الآن معي ، فطلبت من ليلى أن تقابلني لنحاول إيجاد حل في هذا الموضوع ، وافقت ليلى على الفور ، وذهبت لالتقيها في إحدى الكافتريات القريبة من منزلها ، حين حضرت ليلى كان ظاهراً عليها شدة التأثر وكانت عيونها باكية ، قبل أن تجلس همست : أأعجبك ما فعله صديقك رشدي بعد كل تلك السنين ؟ ماذا جرى له ؟ أعتقد أنه فقد عقله ، تبسمت وأنا أهدئ من ثورتها وهمست: لأسمع أولاً وجهة نظر سناء وبعدها أقول لك رأيي في الموضوع وماذا علينا فعله للإصلاح بينهما ، قالت ليلى : ماذا تريد أن تعرف ؟ رجل مزواج يريد أن يتزوج على السيدة التي احتملته كل تلك السنين ، ابتسمت وأنا أحاول أن أفهمها أنهما قد ارتضاني حكماً ويجب أن أعرف الحكاية كما حكتها لكِ سناء ودون أن يتدخل رأيك الخاص ، هل تقدرين على ذلك ؟ كما حكت هي .
بدأت ليلى بالسرد وقد أكدت أنها ستتحدث بلسان سناء المكلومة والجريحة كما حكت ودون أن يكون لها رأي ، صمتت قليلاً وهو تقول : اعتبرني أنا سناء وسأتحدث بلسانها ، أومأت مبتسماً وموافقاً ، قالت : رشدي كان حنوناً في بداية الزواج وكان أباً وأخاً قبل أن يكون زوجاً ، لكنه بعد فترة قصيرة بدأ يتحول كلياً وبدأت تظهر أنانيته واهتمامه بنفسه ، يريد أن يكون الفتى المدلل طوال الوقت ، والآمر الناهي ، وبدأت مشاعره تتغير تجاهي ، شعرت أن الحلم تسرب من بين يداي أهذا هو رشدي فتى أحلامي وحبيبي الذي وافقت عليه من بين الكثيرين من طلبوا ودي ؟ كنت أشعر أنني خدعت وأنا أرى كم الأنانية وحب الذات الذي سيطر على تصرفات رشدي ، لم أكن أشعر معه بالأمان ، وفكرت أن ننفصل ، لكن ظهر أنني حامل ، وبدأ رشدي يتغير قليلاً ، وشعرت أنه بدأ يهتم بي من جديد ، ويحنو عليَّ ويلاطفني ، كنت سعيدة وبدأت أنسى ما كان منه ، بل وحاولت أن أسعده قدر استطاعتي ، ولم تمر إلا أشهراً قليلة وأتى ولدنا ، طار رشدي به فرحاً ، وكان يهتم به وبي ، وقتها عشت أسعد أيام حياتي مع رشدي ، وكنا لا يمر علينا يوم إلا وهو أفضل من سابقه ، مرت سنتان وفكرت في العودة إلى العمل ، وشجعني رشدي في البداية ، لكنه بعد فترة قصيرة بدأ يظهر ضيقه ، ويتململ من تقصيري في البيت ومع ابننا ، رغم أنني كنت أحاول بذل قصارى جهدي ، وكنت أضغط على نفسي كي أقوم بكل واجباتي تجاهه ، ثم صمتت ليلي قليلاً ، وظهر عليها الارتباك ، فقلت لها : أكملي ، ثم أردفت وأنا أرى علامات الخجل مرتسمة على وجهها : العلاقة الخاصة بينهما ؟ أومأت ليلى وهي تنظر إلى الأرض : نعم ، سناء لم تكن تقوم بواجبها ، هي اعترفت لي ، وهذا أغضب رشدي وجعله يبتعد عنها ، كانت تحاول أن ترضيه أحياناً ، لكن شعوره بأنها تقوم بهذا كواجب أغضبه أكثر وأشعره بالنفور منها ، لقد أخبرتني أن هذا كان رغماً عنها ، الإجهاد والسهر على رعاية طفلها ، وقبل كل هذا طبيعتها التي كانت لا تميل بشدة إلى هذا اللقاء الحميمي ، كلها أسباب كانت ترغمها على تصرفاتها كما قالت لي ، لكنها كانت تحاول رغم ذلك ، وبدلاً من أن يتفهم رشدي الأمر ويلتمس لها العذر راح يكيل لها الاتهامات ، ويجرحها بوصمها بالبرود وبأنها ليست بأنثى كاملة ، لم تتقبل سناء إهانته لها طويلاً فبدأت في الابتعاد من جديد ، أما هو فقد بدأ في السهر خارجاً والتأخر عن الحضور ، وإهمالها هي وابنه تماماً ، أدركت سناء أن هناك أنثى أخرى في حياته ، وخافت من أن يتزوجها فهي تعرف رشدي ، إنه لن يقبل بأية علاقة خارجة عن الإطار الشرعي ، وحينها ستخسر حياتها معه إلى الأبد ، هي راضية الآن بنصف حياة وبوجوده ولو من بعيد في حياتها هو وابنه ، صحيح أن هوة الخلاف قد اتسعت بينهما ، لكن لتحاول من جديد ، ربما استعادت حياتها وزوجها ، وقد كان هذا رأي أمها رحمها الله والذي نصحتها به قبل وفاتها بسنة ، كانت سناء من الذكاء بمكان حيث بحثت في أسباب ابتعاد رشدي وبدأت في إزالة تلك الأسباب ، أولاً بدأت في خلق جو رومانسي جميل في البيت ، ودون أن تطلب من رشدي شيئاً بدأت تتقرب منه من جديد وتحاول أن تكون له الأنثى التي يحلم بها في ملبسها وعطرها وأناقتها ، وبدأت وكأنها على وشك أن تعيش شهر عسل من جديد ، لم يستجب رشدي في البداية لأنه كان يشعر أن هذا ديدنها وستعود بعد أيام إلى عادتها ، لكنها بدون أن تطلب منه شيئاً أو تلح في استعجال عودته ، أشعرته بأن هذا التغير سيدوم وأنها راغبة في تغيير حياتهما ، وقد أخبرتني سناء أنها كانت تتوق بصدق إلى التغيير بعد حديثها مع أمها ونصيحتها لها بأن تكون طوع بنان زوجها وإلا تخرب بيتها بيدها ، ولم يمكث رشدي على عناده طويلاً فقد عاد إلى بيته بعدما شعر بصدق نية سناء ، وحرصها على استمرار هذا التغير الذي بدأ يستشعره في تصرفاتها وهيئتها ، ومضت أشهر وهما سعيدان ، لكن سناء ترقت في عملها ، مما استلزم جهداً إضافيا وتأخيراً وإجهاداً زيادة أثر على علاقتها برشدي مباشرة ، لكنه صبر وهو يمني نفسه بأن هذه فترة وستمر كما وعدته سناء ، لكن الفترة طالت وبدأت سناء تشعر بأن رشدي لا يهمه غير شهوته ، ومن جديد بدأت الأمور تسوء ، بل إن الأمور انحدرت بهما بعدما سب سناء فردت عليه ، وعايرته بأنه حيوان لا يهمه سوى نفسه وشهوته ، لا يعيش إلا ليتمتع ولا شيء آخر يهمه ، ورد رشدي عليها بأقذع السباب ، وانكسر شيء بينهما ، لم يعد ينفع أن تعود الأمور بينهما كما كانت ، تحكي سناء بأنها أدركت بعد أن هدأت أنها أخطأت وبأن رشدي لن يسامحها ، وقد عرفت وقتها أنهما في طريقهما إلى الانفصال لا محالة هذه المرة ، لكن العجيب ما حدث فقد عاد رشدي في تلك الليلة بعد أن كان قد غادر إثر الشجار الذي وقع بينهما ، عاد صامتاً ، لم ينظر إليها لكنه استلقي على سريره وهو محملق في السقف بلا حراك ، أما سناء فلم تكن تعرف ماذا تفعل ، مكثت بجواره صامتة ، ثم بدأت تبكي بهدوء ، بعدها علا صوتها وهي تنتحب وهوت على يد رشدي تقبلها وهي تعتذر ، ربت رشدي على رأسها ثم أخذها في حضنه وهدأ من بكائها ، لكنه ظل على صمته ، ناما دون أن ينطق ببنت كلمة ، في الصباح ذهب كل منهما إلى عمله ، ومضت الحياة بينهما باردة ، هي تتكلم وهو يرد باقتضاب ، كانت تعلم أنه مازال غاضباً ، فتركت للأيام أن تزيل باقي غضبه من صدره ، ومضت أشهر والغريب أن رشدي لم يعد يقرب سناء ، وهي كانت تتزين له لكنها ما كانت لتقترب منه وهي تشعر بداخلها أنه ما زال غاضبا من كلامها ، عبثاً حاولت سناء استمالة رشدي لكنه كان قد انفصل روحياً عنها ، كانت تحاول أن تقترب منه وهو يصدها بهدوء ودون أن يظهر صدوده منها يحاول أن يجعل ذلك بشكل عفوي ، وقد قالت لي سناء إنها عبثاً حاولت أن تستخدم كل أسلحة الأنثى ، لكن رشدي كان قد ماتت كل مشاعر يحملها لسناء فلم تفلح في استمالته من جديد ، وقد كانت سناء في حيرة لماذا إذاً عاد وهو لا يطيق قربي ؟ ومرت السنوات وهما يعيشان كغريبين تحت سقف واحد ، ولم يعد يهتم رشدي متى أتت زوجته أو إلى أين ذهبت ، كانا فقط زوجين أمام الناس ، وبدأ يعود من جديد للغياب عن البيت ، والسهر خارجاً ، وكانت سناء تدرك أنه ربما وجد ضالته خارج البيت ، لكنها هذه المرة لم يكن لديها خيار أو فرصة لاستعادة زوجها من جديد ، بقت حزينة وأخذت تخرج كل طاقتها في عملها ، وتتابع رعاية ابنها ، واستمرت حياتهما على هذا النسق حتى التحق ابنهما بالجامعة وسافر للإقامة في إحدى المدن الجامعية ، ظنت سناء أنها فرصة لتكرس كل جهدها لرعاية رشدي والاهتمام به ، بل فكرت أن تستقيل من عملها ، لكنها أرجأت الفكرة حتى تتأكد من مشاعر رشدي ، لم يكن رشدي يهتم لأية محاولة من جهتها ، كان قد انقطع ما بينهما إلى الأبد ، وقد صارحها من عدة أيام بأنه ينوي الزواج ، وخيرها بين الطلاق وبين أن تستمر معه ، كما كانا طوال الفترة الأخيرة ، وقد ثارت سناء عليه وغضبت وعادت تتهمه بالخيانة وأنه لا يعرف معنى الوفاء أو يدرك للإخلاص معنى .
سناء تحب رشدي يا أكرم وتحبه بجنون لكنها أخطأت وهي تعرف هذا لكنها تؤكد أنها لم تكن تقصد وأنها حاولت وعلى استعداد أن تحاول ، لكنها أيضاً تشعر أن شيئاً انكسر في علاقتهما من زمن ، وأن رشدي لن يسامحها ولن يعود كما كان مهما حدث ، هي تتألم يا أكرم ، ولن تحتمل أن يتزوج رشدي بغيرها ، ستموت سناء لن تحتمل ، كانت ليلى بدأت تدمع وهي تحكي لي وقد تأثرت جدا وهي تحكي عن سناء ، لكني شعرت بحيرة ، وظللت صامتاً للحظات وأنا أتعجب كيف يستطيع الإنسان بكل ما حباه الله به من نعمة العقل أن يدمر ذاته ويدمر من حوله هكذا ، وكيف يستطيع الحب أن يبني ؟ وكيف يهدم حين لا نعرف حقوقنا وواجبتنا تجاه من نحب ؟
نظرت إلى ليلى وهي تنتظر أن آتي بالحل ، تبسمت وأنا أهز رأسي في أسى ، ثم قلت : أرى أن النهاية قد كتبت لعلاقتهما ، حين يفقد المحبين احترامهما لبعضهما وتقديرهما لمشاعر بعضهما يسقط كل شيء ، ولا يعود لشيء قيمة وتنهار كل السبل في طريق تحقيق أي إصلاح ، الحب يا ليلى كعلاقة تقوم على تبادل المشاعر والاحترام والتقدير والشفافية والخصوصية ، لا يجب أن ينقص أي ركن من هذه الأركان لتظل للحب روعته وبهاؤه ،ونحن هنا أمام مشروع حب قد تهدمت الكثير من أركانه ، نحن أمام أطلال لصرح أراد رشدي وسناء تشييده بلا أسس أو تضحيات ، واهتما بأشياء تافهة لا تقيم هذا الصرح ولا تساعد بأية حال على استمراره .
كانت ليلى تنظر إليّ مندهشة ، فتبسمت وأنا أتابع حديثي : صدقيني ليس المهم أن يعود رشدي إلى سناء ، المهم أن يبحث كل منهما عن الطريق الصحيح كي يكمل حياته ، على كل منهما أن يبدأ من جديد ومع شريك يقدر حاجاته ومتطلباته ، وهذا ليس عيباً بل هو الصدق في معالجة الأمر ، أتودين أن نصلح بينهما لأشهر ثم يتكرر الأمر؟ لقد حكيت بنفسك أن الأمر لا ينجح بينهما أبداً ، ولن ينجح ، هزت ليلى رأسها وهي تتمتم : أنتم الرجال هكذا لا مشاعر لديكم ، ضحكت وأنا أرد : أشكرك على رأيك الجميل فينا ، ثم أكملت :ليلى ! نحن أصدقاء من أكثر من خمسة عشر عاماً ، صحيح أننا كنا نتباعد في فترات لكننا أصدقاء والعلاقة بيننا قوية ، سأقول لك شيئاً ، دعيني أحاول مرة أخرى مع رشدي لكن ثقي أنني سأفعل الأفضل لهما حتى ولو كان الانفصال .
صمتت من جديد وهي تطلق تنهيدة وزفرة أسى من أجل صديقتها سناء ، ثم اعتدلت وهي تسألني وما أخبارك مع رنا ، ابتسمت وأنا أغمض عيناي وأتمتم : رنا هذه حلم تحقق بعد طول انتظار ، ضحكت ليلى وهي تهمس : هذا عشق أيها العاشق المتيم.
تركتني ليلى وهي تكرر على وصيتها بأن أفعل ما بوسعي من أجل سناء ، أما أنا فبقيت أفكر وأنا لا أرى أي مخرج لهذه المشكلة ، فكرت في رنا ، قمت اتصلت بها ، واتفقنا على اللقاء ، كانت متلهفة لتعرف ما تم في موضوع سناء رشدي ، لكنها حين صافحت عيناها وجهي ، أدركت الحيرة التي أنا فيها ، أمسكت بيدي وربتت عليها وهي تهمس لا تضايق نفسك ، سنجد حلاً بإذن الله ، قصصت على رنا ما دار بيني وبين ليلى ، لكن ظهرت الحيرة أيضاً على وجهها وإن كانت وافقتني في أن الانفصال ربما يكون أحد الحلول الصحيحة ، قلت لرنا : ربما سناء لم تحاول يوماً أن تكون الحبيبة والحضن والسكن لرشدي ، كانت دوماً تهتم بنفسها أكثر وهذا لم يتوافق وطبيعة رشدي الذي كان يتطلع دوماً إلى أنثى تحتويه بدفئها ورقتها .
نظرت إليَّ رنا نظرة معاتبة وهي تقول : أظنك متحيزاً لرشدي ، أولاً لأنه صديقك وثانياً لأنه مثلك رجل ، فضحكت وأنا أحاول أن أفهمها أن كوني رجل أو صديق لرشدي لا دخل له بما أحاول أن أشرحه ، وهو أن أي رجل يحتاج إلى أنثى تتفهم مشاعره وتحرص على إشباع عاطفته بحنانها وعندها ستجد حضن هذا الرجل سكناً لها وسترى من طيبته وحنانه ما تقر به عينها ، أغمضت رنا عينيها ومدت يدها إلى يداي واحتضنتهما بين يديها وهي تقول هامسة : أحبك ، أنت حلم أي أنثى يا رجل ، ابتسمت وأنا أسحب يدي من بين يديها وأمدها إلى وجهها القمري الذي تلألأ جمالاً بابتسامتها الساحرة والسكينة التي بدت عليه وأنا أنظر إلى عينينها العسليتين الرائعتين ، لامست أناملي وجنتيها برفق فمالت برأسها لتمسك بيدي بين رأسها الجميل وكتفها ، ضحكت وهي تهمس : لن أتركها ، فرددت : ومن قال أني أريدك أن تتركيها .

حاولت أن ألتقي بسناء في محاولة يائسة لإصلاح ما بينها وبين رشدي رغم أنني كنت في قرارة نفسي أعرف أن ما حدث قد حدث ولن تعود الأمور بأية حال لما كانت عليه ، لكن سناء كانت منهارة تماما وترفض التحدث إلى أي شخص ، فاعتذرت لي أكثر من مرة واعتذرت لصلاح الذي حاول هو الآخر التدخل بعدما سمع مني ومن ليلى بما حدث ، وقد نصحته ليلى أن يأتي لمقابلتي ومشاركتي في البحث عن حل يحول دون انهيار علاقة سناء ورشدي ، حين التقيت صلاح حاول أن يتخلى عن مزاحه وأن يبدو جدياً وهو يستشعر فداحة الموقف ، وقد بدأ حديثه متخطياً الكثير من النقاط ومركزاً بشكل أساسي على السبب الذي فهمه هو من وجهة نظره في انهيار العلاقة ووصول الأمور لما وصلت إليه ، ألا وهو العلاقة الحميمة بينهما ، وقد اعتدل في جلسته وهو يحاول أن يظهر الجدية وهو يقول : أنا قرأت كثيراً فيما يتعلق بهذا الموضوع ، وقد فهمت أن موضوع الختان للبنات وهن صغار يؤثر سلباً وبشكل كبير على العلاقة بعد الزواج ، لكن يجب أن يتفهم رشدي هذا ، وهناك بعض الحلول لمثل هذه الأمور ، وقبل أن يكمل ، أشرت إليه لأستوقفه ، فسكت وقد ظهرت عليه علامات الاندهاش ، فقلت مبتسماً : يا صلاح إنهما زوجان من زمن وليس الأمر كما تتصور ، يوجد شرخ حدث في العلاقة ، لو أردنا أن نصلح بينهما يجب أولاً أن نحاول إصلاح هذا الشرخ ، وأعتقد أن هذا صعب ، لأن ما يحدث فيما يخص المشاعر يصعب إصلاحه ، إن لم نقل إنه يستحيل ، ارتسمت على وجه صلاح نظرة لم أفهم معناها ، لكنه أعاد السؤال بوضوح : هل تقول أن ما بين سناء ورشدي قد انتهى وأن الطلاق واقع لا محالة ؟ رددت عليه وأنا أنظر إلى الأرض : أخشى أن هذا هو الحل الوحيد الذي أراه ممكناً الآن ، أطرق صلاح إلى الأرض مفكراً ، ثم قام يودعني صامتاً .
بعدما غادرني صلاح اتصلت ليلى لتعرف ما حدث ،وحين أجبتها لا شيء احتدت عليَّ ، كنت أعرف أن ليلى تكن معزة خاصة لسناء فلم أغضب منها ، وقد شعرت بأنها تجاوزت في حديثها فحاولت الاعتذار وطبلت أن أقابلها هي وصلاح لنتناقش ونحاول إيجاد حل ، لكن اعتذرت لها بسبب موعد مسبق مع رنا ، عاد غضب ليلى إلى الظهور وإن غلفته بمزاح وهي تقول : من وجد أحبابه ...ولم تكمل ، طبلت منها أن نحدد موعداً في الغد وافقت وهي تودعني ، قمت بالاتصال برنا لأذكرها بموعدنا ، ثم ارتديت ملابسي وتوجهت إلى المطعم الذي تعودنا اللقاء فيه ، وجدتها في انتظاري بابتسامتها ، جلست قبالتها ، كانت أعيننا تتحاور في صمت ، قطع صمتنا صوت النادل وهو يسألنا عن طلباتنا ، طلبت منه أن يحضر لي طلبي المعتاد ، لكن رنا بغرابة قاطعتني ، وهي تقول : دعني أطلب لك أنا اليوم ، تبسمت ولم أعلق ، لكني حين سمعت ما طلبته لي ولها تضايقت قليلاً خاصة وأنها المرة الأولى التي لا نتشارك فيها في اختيار شيء .
لم تلحظ رنا ضيقي في غمار حديثها عن نادية وتعلقها برشدي ، وقد بدت مرتاحة لارتباط نادية ورشدي وأخذت تكيل المديح لرشدي وتقول إنه إنسان حساس ذو خلق وقد عرف كيف يكسب قلب نادية ، ثم أردفت : لقد تحدثت مع رشدي أثناء لقائه بنادية أمس ، وقد عرفت أنه لا سبيل إلى عودة العلاقة بينه وبين سناء أبداً ، وقد طلبت من نادية أن تتنازل عن شرطها بخصوص عدم طلاق رشدي لسناء ، أنا أرى أن في هذا ظلماً لها ، كنت صامتاً طوال الوقت ، فنظرت إليًّ رنا باستغراب ، فتبسمت وأنا أقول لها ، ظلم لمن ؟ لنادية ؟ ردت رنا بسرعة : لا طبعا أنا قصدت سناء ، فيكفيها أن رشدي أحب نادية ، لا يجب أن تصر على إبقائها في عصمته وتحرمها من تجربة حظها مع رجل آخر يقدرها ويسعدها ، هززت رأسي ولم أرد ، عند انتهائنا من الطعام أخبرت رنا أنني رتبت مع ليلى وصلاح لقاء في الغد لمحاولة إيجاد حل لمشكلة رشدي وسناء ، لم تعلق رنا .
بعدما خرجنا من المطعم أوصلت رنا ، ثم عدت مشياً إلى شقتي ، وكنت طوال الطريق منشغل البال وأفكر فيما حدث ويحدث لنا ، تجمعت خيوط كثيرة أمام عيني ، وأحسست بأن صدري يكاد ينطبق من كثرة الحزن ودمعت عيناي وأنا أتذكر رحيل انتصار وفراق سناء ورشدي ، والتغير الذي بت ألحظة على رنا ، حين وصلت كنت أشعر بإرهاق شديد ورغم ذلك فقد جفاني النوم ، لم يغمض لي جفن حتى الصباح ، توجهت إلى مكتب الصحيفة ، كنت مرهقاً جداً ، لكنني حاولت أن أهرب من أفكاري بالعمل ، لم أشعر إلا وهاتفي يدق ، كانت ليلى على الطرف الآخر ، كانت تود أن تعرف إن كنت سأقابلها أم لا وتخبرني بأن صلاح اعتذر عن اللقاء.
توجهت لمقابلة ليلى ، جلست ساهمة دقائق قبل أن تستحثني على الكلام، قلت لها : أعتقد أن الأمور تزداد تعقيداً ، قالت لي : كيف هذا ؟ فأخبرتها عن حديث رشدي معي وما أخبرتني به رنا من اقتراب ارتباط نادية ورشدي ، زمت ليلي شفتيها وهي تحاول كتم غضبها ، ثم قالت : قد تغضب من حديثي لكني سأتكلم ، أعتقد أن رنا سبب في كثير من مشاكلنا ، أتري يا أكرم كل ما حدث لنا ؟ ظهور نادية صديقتها وتعلق رشدي بها ، ابتعادك عنا ، حتى وفاة انتصار ومرضها ، كلها أشياء حدثت بعد ظهور رنا ، لا تغضب مني يا أكرم صدقني كلنا سعدنا حينما عرفتنا بها لأجلك ولشعورنا بأنك تحبها ، لكنها لا تستحقك ، كنت أستمع إليها وثغري لا تفارقه ابتسامة باهتة ارتسمت على ثغري ، لكني لم أنطق بحرف ، قطع الصمت صوت جرس تليفون ليلى ، بعد أن أنهت مكالمتها قامت مستأذنة قبل أن أرد عليها واعتذرت لمغادرتها المفاجئة ، جلست بعدما رحلت ليلى أفكر في كلامها والذي توصلت إليه أنه ليس منطقياً ، فمرض انتصار له أسبابه وليس لرنا علاقة به ، كما أن طلاق رشدي وسناء له أسبابه القديمة ، صحيح أنها بموقفها المساند لنادية ربما شجعت رشدي على اتخاذ قراره ، لكنها ليست السبب الأساسي ، لكن ما شغلني وجعلني أفكر هو أنني بدأت ألحظ بعض العيوب في شخصية رنا التي كنت لم ألحظها ونحن في ذروة علاقتنا وتأجج مشاعرنا ، ربما كلام ليلى لي مع ما حدث في المطعم كانا السبب في أن تقفز تلك الأفكار إلى رأسي .





الفصل الخامس



مرت علاقتي برنا بأسوء فترة حيث تعددت الخلافات بيننا ، وقد شعرت بأن رنا تريد أن ترسم طريق حياتنا وحدها ، كانت تحلم وتخطط لمستقبلنا وفي النهاية تطلعني على ما قررته ، وقد نبهتها أكثر من مرة أننا شركاء ، وقد كانت رنا تعتذر وتتعلل دوماً بأنها لا تقصد ، وأنها حريصة على عدم تشتيتي بهذه الأمور الصغيرة ، وأنا حيناً كنت أصدقها وفي أحيان أخرى كنت أرى أن هذا تهميش لدوري فكنت أغضب وأبقى ليومين لا أحادثها ، وقد أثرت تلك التصرفات سلباً على علاقتي برنا .
ومما زاد الأمر سوءاً أن رشدي تقدم لخطبة نادية وخطبها بالفعل ، لكني لم أحضر مراعاة لمشاعر سناء التي كانت طلبت الطلاق من رشدي وحصلت عليه ، لكن بعد خطبة رشدي ونادية ابتعدت رنا قليلاً وانشغلت مع صديقتها بالتجهيز للزفاف الذي كان رشدي يسعي إلى إتمامه في أقرب وقت ، وقد بدأت ليلى تلاحظ تقارب بين صلاح وسناء وقد طلبت أن تلتقي بي ، وحدثتني عما يحدث وأنها متخوفة لأن صلاح متقلب المزاج كما نعرف جميعاً ، وسناء تريد أن تثبت لنفسها وللناس جميعاً أنها مرغوبة وأن رشدي هو الخاسر من فراقهما .
طلبت صلاح وجلست أتحدث إليه وقد حاول إقناعي بأنه فكر طويلاً في الأمر وأن قراره جاء بعد دراسة ، وسناء هي خير من يعرفه نظراً للصداقة التي جمعت بيننا طويلاً ، وهو يعرفها جيداً وسيكون سعيداً معها ، كان كلام صلاح كله عاطفي ويخلو من المنطق وعبثاً حاولت أن أثنيه عن عزمه أو يوافق على تـأجيل الموضوع ، وكانت حجته أن سناء تريد للأمر أن يتم في أسرع وقت وقبل زواج رشدي ونادية ، كنت أشعر أن ما يحدث خطأ ، وأننا جميعاً سندفع ثمن تسرع وعناد رشدي وسناء .
كنت اشتقت إلى جلستي في كافتريا محطة القطار ، تلك الجلسة التي كانت تخرجني من همومي ، وتجعلني أدرك عن الحياة وحقائقها أكثر بكثير مما كنت أدركه وأتعلمه وأنا بعيد عن هذا العالم الرائع والنماذج البسيطة التي تعلمك عن الحياة في ثوان ما تحتاج إلى سنين كي تتعلمه ، لذا فقد توجهت إلى كافتريا محطة القطار بالإسكندرية صباحاً ، وجلست أرتشف قهوتي وأنا أتابع سموفونية طالما عشتها واستمتعت بمفرداتها ، كانت الوجوه البسيطة والمواقف الإنسانية التي تتفجر أمامي بعفوية ، وتكاتف هؤلاء البسطاء وحرصهم على الآخر دوماً كلها دروس كنت بحاجة إلى إعادة تذكرها ، كانت البانوراما الصباحية تلك بكل مفرداتها خير معين لي على إعادة ترتيب أفكاري وإيجاد حلول لما حل بنا من مشاكل ، كما أنها أعادتني إلى لحظات الدهشة الأولى ، حين عانقت عيناي وجه رنا لأول مرة ، وحين سكن حبها بقلبي ، لمحت على البعد شيخاً يحمل حقيبة ثقيلة ، سقطت منه وتبعثر ما بداخلها ، اقترب منه صاحبها بلطف ، ربت على كتفه وانحنى يلملم الأشياء التي تبعثرت ويعيد ترتيبها في الحقيبة ، لم يستلزم الأمر الكثير من الوقت ، عاد كل شيء كما كان وفي لحظات لحق الرجل بالقطار ودس في يد الشيخ بعض المال ، وانتظمت من جديد حركة السير بعدما كانت توقفت للحظات حين سقطت الحقيبة .
طلبت رنا لأتحدث معها ، أتت للقائي في نفس مكان لقائنا ، والعجيب أنها لم تقم بطلب الطعام ، حتي أنها قالت للنادل بعدما أنهيت طلبي أنها تريد نفس الطبق الذي طلبته أنا ، تبسمت ورنا تنظر إليّ وبعينيها لمحت تراكم الأسئلة وبعض العتاب ، هممت بأن أتكلم ، رفعت يدها ووضعتها فوق شفاهي وهي تهمس: لا تفسد اللحظة ، أعرف أنك قرأت ما في عيناي كما قرأت ما كنت أنت تود قوله ، يا أكرم أقسم لك أنني لم أقصد يوما أن أستاثر برأي أو أحاول التحكم في مجرى الأمور ، ربما أنت معذور لكني أنا أيضاً كنت مشتتة خلال الفترة الماضية وكنت لا أعرف ماذا حدث ولا لمَ ؟ ، وهل أنا بوقفتي بجوار نادية أخطأت ؟ وهل أنا ظلمت سناء وتسببت في طلاقها ؟ صدقني لقد كنت أعيش في دوامة ، لكني أمس وأمس فقط شعرت بأن هذا كله قدر وقسمة ونصيب وليس لنا يد فيما يحدث ، وقد جعلني هذا أستريح قليلاً ، وأبدأ في ترتيب أوراقي من جديد ، تصور يا أكرم أنني لم أكتب حرفاً من أسبوع ، ولم ينشر لي موضوع كبير منذ أكثر من شهر ، أكرم أنا أحتاج إليك بجواري ، أنا أفتقدك ، وأشعر أنني تائهة وأنا بعيدة عنك ، لا تتركني وحيدة يا أكرم.
كنت أستمع إلى رنا وأنا أشعر بالسعادة وبأن الروح قد عادت من جديد إلى علاقتنا وحبنا بعدما شعرت لفترة أننا في طريقنا إلى الفشل والفراق ربما ، أنهت رنا حديثها ولم تنتظر أن أعلق فهي تفهمني جيداً وتعرف أن ما بيننا أقوى من أي أحداث أو ظروف قد تؤثر عليها أو علينا ، وتعلم حق العلم أن ما حدث من جفاء بيننا لفترة وجيزة ، ما هو إلا سحابة صيف عبرت بسرعة ، ولن تخلف أي أثر ، وأنا أيضاً شعرت بعد حديثها بأن شيئاً لم يكن وأن ما كان يحيك بصدري ما هو إلا وسوسة شيطان في ساعة غضب ، قمت أنا ورنا بعد أن أنهينا طعامنا وتأبطت ذراعي وهي تقول : ألم تشتاق إلى السير على الكورنيش ؟ وقبل أن أرد كانت قد توجهت بي وأنا أمسك بيدها إلى الكورنيش الذي بدا بأنواره المتلألئة ونسماته المنعشة وكأنه يحتفي بنا .
كنت قد اتفقت مع رنا أثناء نزهتنا على الكورنيش ، أن نبتعد عن كل ما يحدث ، بعدما رأينا أن ما يحدث بهذه السرعة إنما هو نوع من أنواع تصفية الحسابات وسيعود بالكثير من المشاكل على الجميع ، وقد وعدتني رنا أن تقدم النصيحة لنادية ولكنها لن تجاريها في تكملة ما بدأته خاصة وهي مصرة على إنهاء كل شيء بسرعة لإرضاء رشدي الذي تقول أن هذه رغبته ، وقد علمت رنا أيضاً بموضوع صلاح وسناء ورغبتهما في الزواج أيضاً ، وقد سألتني عن رأيي في الموضوع فقلت : رغم أني أعرف أن هذه العلاقة لن تنجح وقد حاولت أن أثني صلاح عن تلك الخطوة ، إلا أنني أتمنى لو أكون على خطأ ، همست رنا : لقد قارب الشهر على الانتهاء وأنت لم تحدد موعداً لزفافنا ، ثم ضحكت وهي تقول : أم أنك تراجعت عن قرارك بالزواج مني ، نظرت إليها معاتباً ثم قلت : حددي الموعد أنت ، لقد انتظرت كثيراً حتي أنهي مشاكل أصدقائي أو أجد لها حلولاً ، لكني أرى أن الأمور تزداد تعقيداً ، لذا أرى أن نسرع بزواجنا وسأترك لكِ ترتيب الأمر وسأكون بجانبك في أي شيء قد تحتاجينه .
بدا أن صلاح وسناء قد اتفقا على كل شيء ، وقد دعاني صلاح لأشاركه إعلان خطبته لسناء في حفل صغير بأحد المطاعم ضمني أنا وليلي وهو وسناء فقط وقد خصني بالدعوة ولم يأتِ على ذكر رنا التي طلبت مني أن أذهب وألا أخذل صديق عمري ، جلسنا نحن الأربعة صامتين وقد كانت المرة الأولى التي أقابل فيها سناء بعد انفصالها عن رشدي وقد بدت متأنقة ، تعلو وجهها بسمة لكنها كانت أكثر الوقت صامتة ، أما صلاح فقد كان سعيداً جداً وأخذ يحكي لنا بعض قفشاته ونوادره مع زملائه في العمل ، أما ليلى فقد كانت ساهمة طوال الوقت وقد همست لي أثناء تناولنا الطعام متسائلة عن سبب عدم اصطحابي لرنا ؟ فأجبتها ببساطة : لأن صلاح لم يدعها ، هزت رأسها في تعجب ثم أكملت صمتها ، انتهت سهرتنا بعدما ألبس صلاح خاتم الخطوبة لسناء التي حاولت أن تبدو سعيدة ، تمنيت لهما السعادة وقمت أودعهما على وعد بلقاء قريب ، وقد اسـأذنت ليلى وهي تطلب مني أن أوصلها في طريقي .
في طريقنا أنا وليلى لمحت الحزن المتقاطر من أحرفها ، وكأنها كانت تنتظر أن يرتبط أحد منا بها ، سواء أنا أو صلاح ، كانت كلماتها حزينة ورغم أنها كانت الصديقة المقربة جداً من سناء إلا أنها لم تكن فرحة لارتباط صلاح بها ، وكانت ساهمة حزينة تشاركنا الحديث قليلاً ، وقد تأكد لي هذا الإحساس وهي تسألني عن علاقتي برنا ، وقد صمتت حين أخبرتها أنني ورنا قد حددنا موعد زفافنا ، لكنها بعد برهة استدركت الأمر فهنئتني ، لكنني كنت قد تأكدت من ظنوني بشأن ليلى ، وتأكدت بأن قلبها كسير ومشاعرها ممزقة مما حدث ويحدث ، وقد شعرت بأنه من واجبي أن أحاول إيجاد عريس لليلى ، إذا كنت أود أن تستمر علاقتنا ونستمر كأصدقاء ، لأنها شعرت أننا نتجاهلها ، وحين فكر أحدنا في الارتباط بعد طول عدول فكر بعيداً عنها ، وقد كان من حسن الطالع أن صديقاً لي بمكتب الإسكندرية كان يعمل بالخليج لفترة طويلة وعاد ليعمل معنا بالصحيفة كانت زوجته قد توفت منذ سنة وكان يبحث عن زوجة وقد سألني أكثر من مرة عن قريبة أو زميلة مستعدة للزواج بأرمل مثله ، وقررت أن أرشح له ليلى.
على الجانب الآخر كان رشدي منشغلاً تماماً في ترتيب زفافه هو ونادية ، لكنه كان من آن لآخر يهاتفني ويسأل عن أخباري وعن رنا التي ما عاد يلتقي بها منذ أن قررت أن تترك نادية تقرر بنفسها الطريق الذي تريد سلوكه ، وقد أخبرني أنه يريد أن يدعوني أنا ورنا لنمضي أمسية مع بعضنا ، وافقت وأخبرت رنا التي كانت متحفظة في البداية لكنها وافقت في النهاية ، كانت أمسية هادئة وقد استمتعنا بها كثيراً وكانت فرصة لي كي أتعرف أكثر على نادية التي أسرت قلب رشدي ، ورغم الشبه الظاهري بينها وبين رنا في التصرفات البسيطة والعادات إلا أنني لاحظت اختلافاً كبيراً بينهما ، وذلك حينما سنحت لي فرصة الاقتراب من شخصيتها خلال تلك الدعوة ، وقد كانت تتصرف بطبيعتها ودون تصنع كالمرة الأولى التي التقيتها فيها مع رنا ، وحين غادرناهما لمحت ابتسامة بعين رنا ، قلت لها : ما بك ؟، ردت : بل ما بك أنت ؟ أرى الكثير من علامات الاستفهام بعينيك ، تبسمت وأنا أحاول الهرب من عيني رنا ، قالت : لا تهرب لقد بت أعرفك وأعرف ما تريده حتى دون أن تقوله ، أليس الأمر متعلقاً بنادية ؟ قلت لها: بلى ، قالت : طالما أن رشدي معجب بها هكذا فما المشكلة ؟ أعرف أنك تشعر أنك أمام امرأة أخرى غير التي رأيتها أول مرة ، لكن صدقني نادية إنسانة طيبة جداً ، ربما هي متطلعة قليلاً وتريد أن تعيش في مستوى أعلى ، لكنها إنسانة دافئة وستسعد رشدي ، صمتُّ قليلاً قبل أن أجيبها : ربما.
مضت عدة أيام قبل أن أجد رشدي يزورني في مكتبي ، كان حزيناً على غير العادة ، وقد ألمح لي بحاجته إلى مبلغ من المال كسلفة ، اعتذرت له بسبب ظروف إعدادي لزفافي أنا ورنا ، لكني سألته عن سبب طلبه ، تنهد وهو يقول : لقد وعدت نادية بأن يكون حفل زفافنا في أكبر فنادق الإسكندرية ، كما أنها طلبت أن نمضي شهر العسل في أوروبا ، ناهيك عن المهر والشبكة التي كلفتني الكثير ، قلت له : ولمَ لم تجلس معها وتتفاهما وتوضح لها ظروفك المالية بصراحة ودون مواربة ؟ ألن تكون زوجتك وشريكة حياتك ؟ أطرق رشدي إلى الأرض ولم يرد ، لكني قمت إليه وأنا أربت على كتفه وأقول : يا رشدي أنت أكثر من أخ لي وأنت تعلم مدى حبي وتقديري لك ، لكن ألست معي أن هناك أموراً يجب أن تكون واضحة ومتفقاً عليها من أول يوم إذا كنا نريد أن نقيم العلاقة على أسس قوية لتستمر وتنجح ، لماذا لم تصارحها بظروفك ؟ ،وهل فكرت ماذا ستفعل مستقبلاً حين تفوق طلبات نادية قدراتك المالية ؟ نظر إليًّ رشدي وهو يهز رأسه موافقاً ، لكنه قال : أنا أعرف يا أكرم ولكن اطمئن سوف أحاول أن أتفاهم مع نادية ، شكرني رشدي وهو يغادر مكتبي .
طلبت عصام زميلي في الصحيفة ، حين حضر وجدته سعيداً وهو يقول : لقد وصلني اليوم فاكساً من الصحيفة التي كنت أعمل فيها بدبي يطلبون عودتي ، لقد راسلتهم مراراً لأنني كنت أود العودة إلى العمل لديهم من جديد وقد وافقوا اليوم وأمهلوني شهراً للعودة ، ضحكت وأنا أقول له : وهل ضايقناك إلى هذا الحد لتفكر في الرحيل ؟ ثم أردفت قبل أن يجيب : أرى أن هذا هو يوم سعدك ، نظر إليَّ مستفسرا ، فقلت له : لقد وجدت لك العروسة التي كنت تبحث عنها ، ألم أقل لك إنه يوم سعدك ؟ لي صديقة تناسبك تماماً وسنها مناسب لك وهي آنسة وأعرفها جيداً ، صاح عصام : وأين كنت تخبئها يا أكرم ، ضحكت وأنا أقول له : المهم إذا كنت لا زلت تريد الزواج فعليك أن تقبل دعوتي اليوم على العشاء لمقابلتها ، شكرني عصام بحرارة وهو يغادرني ، أما أنا فقد هاتفت رنا وطلبت منها أن تقوم بدعوة ليلى على العشاء بعدما أفهمتها سبب الدعوة ، وقد وافقت رنا على الفور وصوتها يتراقص فرحاً ، مضت عدة دقائق قبل أن تعاود رنا الاتصال لتخبرني بأن ليلى رفضت دعوتها ، كانت رنا ثائرة فهدئتها وأنا أحاول أن أشرح لها أن ليلى تمر بظروف عصيبة ، تركت رنا بعد أن هدأت قليلاً ، وقمت بطلب ليلى التي وافقت على دعوتي بعد أن ألححت عليها .
حين وصلنا إلى المطعم كان عصام في انتظارنا ، عرفته على رنا التي كانت بصحبتي وبعد عدة دقائق وصلت ليلى ، صافحتنا وجلست صامتة نظرتُ إلى عصام وجدت نظراته معلقة بليلى ، قلت لليلى لم أعرفك على عصام زميلي بالصحيفة ، أومأت مرحبة وهي تبتسم ، مر الوقت ونحن نتناول الطعام سريعاً ، وقد لاحظت تقارباً وحديثاً جانبياً بدا أنه سيستمر إلى آخر السهرة بين ليلى وعصام ، لكزت رنا في ذراعها وأنا أستأذن قائلاً : يجب أن أصحو مبكراً في الغد يا عصام ، هل تستطيع أن توصل ليلى في طريقك ؟ ابتسم عصام وهو يؤكد أنه سيوصلها بنفسه إلى باب بيتها ، ودعت ليلى أنا ورنا ، وقد همست في أذنها وأنا أغادر : الرجل يريد أن يخطبك ، نظرت إليّ وكأنها تفاجأت لكنها لم ترد ، في طريق عودتنا أنا ورنا ابتسمت رنا وهي تقول : أرى أنك وفقت في هذا الموضوع كثيراً ، فليلى مناسبة جداً لعصام ، فقلت لها : وأيضاً عصام مناسب لها وقد قرر العودة إلى العمل في نفس الصحيفة التي كان يعمل بها قبلاً في دبي وسيسافر خلال شهر وهذه فرصة لكي يتم زفافهما قبل سفره ، ردت رنا : وسيترك عصام الصحيفة ؟ فأجبتها : نعم ، ثم صمت قليلاً قبل أن تلمع برأسي فكرة ، قلت لرنا: لمَ لا تقدمي استقالتك وتأتي إلى العمل معي في صحيفتنا ؟ نظرت إليَّ رنا ملياً قبل أن تقول : إنها فكرة رائعة لأكون بجوارك في البيت وفي العمل ثم ضحكت وهي تقول : ولكن هل ستتحملني في البيت وفي المكتب أيضاً ؟
بعد مرور يومين وجدت ليلى تهاتفني ، كان صوتها رقيقاً يغلفه بعض الخجل ، بعد أن اطمئنت على أخباري وسألت عن رنا همست في دلال : قل لعصام إنني موافقة ، ثم أكملت : أنت تعرف يا أكرم أنه ليس لي أحد في هذه الحياة بعد وفاة والداي ، وأنا اعتبرك المسؤول عني وأخي ، لذا أحببت أن يأتي ردي عن طريقك أنت ، فقد طلبت منه أن يمهلني فرصة لأفكر ، وبعد أن تحدثت معه أيقنت حسن اختيارك ، هو شخصية دافئه جداً ، ويتمتع بطيبة وحسن خلق ، لا أخفي عليك أنني كنت مترددة بسبب أنني سأترك عملي ، لكني فكرت ووجدت أن عملي لم يقدم لي إلا الوحدة ، كنت أنصت إليها ولا أود أن أقاطعها حتي انتهت ثم عقبت عليها قائلاً : لا تعرفي قدر سعادتي الآن يا ليلى ، سأخبره حالاً لأنه كان متلهفاً لمعرفة ردك ، لقد أعجب بك جداً ، فردت في خجل : وأنا أيضاً ، أنهيت المكالمة وقلبي يتراقص فرحاً ، ثم طلبت عصام على الفور الذي حضر مسرعاً وقد بدا متلهفاً إلى سماعي خاصة وقد رأى الفرح يرتسم على وجهي ، همس قائلاً : هل وافقت ؟ ، أجبته : نعم يا صديقي العزيز وليس هذا فقط بل إنها معجبة بك أيضاً ، ثم تابعت حديثي : المهم أن تسرعا في إتمام إجراءات الزواج ، فكما قلت أنت لم يتبق سوى عدة أسابيع لكي تسافر لتلحق بعملك في دبي ، تركني عصام وهو يحاول الاتصال بليلى ليلتقيها ويتفقا على كل التفاصيل .
كنت ورنا نخرج يومياً بعد انتهاء العمل لاستكمال تجهيز شقتنا التي استأجرناها للعيش فيها بعد الزواج ، وقد كانت رنا صاحبة ذوق رفيع ورقة متناهية في اختيار وتنسيق كل ركن من أركان عشنا الذي كنا نتشارك في بنائه بحب ، وقد علمت من رنا أنها بالفعل تقدمت بطلب استقالة ، وعلى الفور قمت بإرسال سيرتها الذاتية إلى مكتبنا الرئيسي بالقاهرة لاعتماد تعيينها لدينا في الصحيفة ، وفي تلك الأثناء كنا دوما نغسل تعبنا بسهرة على الكورنيش قبل أن أوصلها إلى مكان إقامتها ، تعودنا هواء البحر ، وصادقنا صوت أمواجه ، الذي كان يشاركنا همومنا وأفراحنا ، وتربت نسماته بحنو فوق أجسادنا المجهدة ، وقد كنا نحتضن ليل الإسكندرية الشاهد على قصة حبنا التي كانت تنمو كل يوم وتزداد روعة وبهاء .
لم يمض أسبوع حتى وجدت عصام يخبرني بأنه قد حدد آخر الأسبوع موعداً للزفاف وقد اتفق هو وليلى على كل التفاصيل وأنه سوف يسافر بعد الزفاف بأسبوعين ليستلم عمله ويرتب سكناً له ولليلى وينهي إجراءات استقدامها لتعيش معه هناك ، وقد طلب من ليلى أن تقوم باستخراج جواز سفر وستتسلمه في الغد ، كانت الأخبار السعيدة تتوالى ، فقد هاتفني رشدي ليخبرني بأنه حجز القاعة لحفل الزفاف وسوف يعقد قرانه على نادية بعد يومين ، ويدعوني أنا ورنا لحضور حفل الزفاف ويعتذر عن عدم تمكنه من الحضور بنفسه لتقديم الدعوة وذلك لانشغاله بترتيبات الزفاف ، سألته إن كان بحاجة إلى المساعدة ، فرد ضاحكاً : أنا أعلم أنك ورنا تستعدان للزفاف وربما ظروفكما أصعب لضيق الوقت ، دوماً تؤثر الآخرين على نفسك يا أكرم ، شكراً لك يا صديقي ، وإن احتجت إلى شيء فسوف أخبرك ، حين هاتفت رنا وجدتها على علم بموعد زفاف رشدي ونادية فقد اتصلت بها نادية ودعتها بنفسها ، لكنني أخبرتها بموعد زفاف عصام وليلى فطارت فرحاً ، كانت نفس رنا المحبة والرقيقة تواقة دوماً إلى الفرح محبة للخير ، وقد أستأذنتني أن تتصل بليلى لتسألها إن كانت بحاجة إلى أية مساعدة ، وحين قلت لها مازحاً : ألا يكفيك صديقتك نادية بطلباتها ، وسعينا اليومي لاستكمال تجهيز عش زواجنا ؟ ردت وهي تضحك : وهل نفعل كل هذا ونتوقف عند ليلى ، أم أنك تخشى أن ترفض كما رفضت دعوتي سابقاً ، كنت أعرف أن رنا بشخصيتها المتفهمة لن تتخلى عن ليلى في تلك الظروف .
كانت أخبار صلاح وسناء غائبة بعض الشيء ، لم يكونا يتصلان كثيراً ، وإن أتى موضوع زواج ليلى ليعيد الصداقة التي كانت بينهما إلى سابق رونقها ، وقد فرحت سناء لليلى كثيراً ، وكانت تلازمها في الكثير من تحضيرات الزفاف ، وقد كانت ليلى في موقف لا تحسد عليه وهي ترى عدم توافق سناء ورنا ، مع رغبتهما الاثنتين في مساعدتها ، وكثيراً ما كانت تواجه المواقف الحرجة لعدم اتفاقهما على شيء حين تحاول معرفة رأيهما في ثوب جديد أو أي شيء يخصها ، وقد كانت رنا تصر على أن تزيل ما علق بذهن سناء من أنها السبب في طلاقها من رشدي بسبب صديقتها التي كانت لا تنطق اسمها وإنما دوماً تنعتها بخاطفة الأزواج ، وقد تعبت رنا من نقاشها مع سناء في هذا الموضوع ، وفي كل مرة كاد النقاش بينهما ينقلب إلى شجار ، أما ليلى فقد كانت في حرج كبير في يوم زفاف رشدي ونادية ولم تستطع أن تذهب رغم دعوة رشدي لها ، رغبة منها في الحفاظ علي مشاعر سناء ، وقد ذهبت أنا ورنا إلى هذا الحفل الذي أقيم في فندق راق وقاعة رائعة ، وقد ظهرت أمارات السعادة على نادية ورشدي الذي كان سعيداً وهو يحاول أن يبدأ حياته من جديد كما يحب لا كما تريد له الحياة ، وقد أمضينا أمسية رائعة تخيلنا فيها أنفسنا مكانهما ، وحلمنا بليلتنا وكيف ستكون ، ورغم أنني ورنا كنا متفقين على إقامة حفل عادي في إحدى القاعات البسيطة لقناعتنا بأن الرضا والحب هما الأبوين الشرعيين للسعادة وليس المظاهر أو المبالغة في التباهي ، إلا أننا كنا سعداء لأجلهما وتناسينا أي شيء إلا أن اثنين من أعز أصدقائنا قد وفقا للزواج وسيبدآن معا مشوار حياتهما في محاولة للعيش بسعادة وهناء ، وقد كان رشدي قد رتب أن يبدأ رحلة شهر العسل التي طلبت نادية أن تكون خارج مصر في صباح اليوم التالي لزفافهما ، لذا بعد أن انتهى الحفل قمنا بتوصيلهما إلى شقتهما وودعناهما ونحن نتمنى لهما زواجاً سعيداً .
وقد كانت أخبار صلاح وسناء قد غابت عنا بسبب انشغالنا وبسبب انقطاعهما عن التواصل معنا لفترة ، لذا فقد وجدتني اتصل بسناء لأعرف أخبارها هي وصلاح ، أتى صوت سناء هادئاً مشوباً بالحزن وهي ترد عليَّ ، وحين سألتها عن أخبارها هي وصلاح ، ردت بفتور : لقد طلبت من صلاح أن نتريث قليلاً في أمر زواجنا ، ورغم أنه غضب إلا أنني أقنعته أخيراً بأن هذا في مصحلة علاقتنا ، صمتُ برهة قبل أن أسألها : هل تشعرين بالسعادة مع صلاح ؟ سكتت قليلاً ثم قالت : صلاح إنسان ودود وهو يتمتع بخفة دم وطلاقة لسان وطيبة لم أر مثلها ، وقبل أن تكمل قاطعتها قائلاً : ورغم هذا أنت لم تجيبي على سؤالي ، تنهدت سناء وهي ترد بانكسار : يا أكرم العارف لا يعرَّف ، انتهت المكالمة بيني وبين سناء وأنا استشعر كم الحزن الذي سكن بقلبها بعد رحيل رشدي الرجل الوحيد الذي أظنها أحبته ..
في نهاية الأسبوع كنا على موعد زفاف ليلى لعصام وقد أقيم حفل الزفاف في فيلا صديق لعصام ، كان حفلاً متواضعاً إذا قيس بحفل زفاف رشدي ونادية ، ورغم هذا كانت السعادة طاغية والفرح يتراقص بعين ليلى ، لم أرها هكذا من زمن بعيد ، لم تفارق البسمة ثغرها ، شعرت بها والرضا يتقافز من بين ثناياها وقد شعرت أن الدنيا قد صالحتها بعدما أدارت لها ظهرها زمناً طويلاً ، كان عصام شخصية خلوقة متواضعاً إلى أقصى حد وكانت طيبته أهم سماته ، وقد أشعر ليلى بحنانه واحتواها بقلبه الكبير فسرعان ما اقتربا من بعضهما ، خاصة وأن ليلى كانت تفتقد إلى الحنان وتبحث عن قلب دافئ كقلب عصام ، قابلت صلاح في الحفل وكان مصطحبا سناء ، وكنت لم أره من فترة طويلة ، كان يبدو عليه التغيير ، أصبح أقل مزاحاً وأكثر التزاماً ، وقد شعرت أن ارتباطه بسناء بشخصيتها الهادئة والرصينة قد غير منه قليلاً ، ولم تكن سناء رغم محاولتها التجمل والتأنق كما عهدتها، فقد بدا جمالها باهت وحضورها ذابل ، كنت تشعر من الوهلة الأولى بعدم التوافق بين هذان الثنائي سناء وصلاح ، أما أنا ورنا فقد انتحينا جانباً وأخذت ألومها وأنا أقول لها : ألم يئن أوان زفافنا ؟ ألم تنته بعد من إعداد الشقة ؟ لقد اشتقت إليك كثيراً ، فترد ضاحكة : فات الكثير ما تبقى إلا القليل ، سأعلمك الصبر يا أكرم أنت دوماً تتعجل يا حبيبي .
رغم بساطة الحفل إلا أننا شعرنا أننا استمتعنا كثيراً ، وكنا نشعر بالسعادة لأجل عصام وليلى ، وقد ظل عصام يشكرني ويكرر شكره لي على أني أهديته تلك الجوهرة على حد وصفه ، وكانت ليلى تبتسم وهي تستمع إلى مديح عصام وتكتم ضحكتها وهي تتمتم : ليس لهذه الدرجة يا عصام ، فيأخد بيدها يقبلها وهو يقول بل وأكثر يا حبيبتي ، كنت سعيداً بأن وقفت في الجمع بين عصام وليلى ، وزادت سعادتي حين رأيت ذاك التوافق والألفة التي جمعت بينهما ، وحين انتهى الحفل أصر عصام أن نصطحبهما أنا ورنا للعشاء الذي كان قد رتبه لنا ، اصطحبنا عصام وليلى في سيارة عصام وذهبنا جميعاً إلى العشاء ، ولم يسلم عصام من ألسنتنا لصغر السيارة وضيقها ، وقد كان يدافع وحيداً وهو يحاول تبرير أن هذه السيارة كانت له وحده وهو شخص عازب ، وأنه بعد أن وجد رفيقة عمره وحبيبته ليلى فسوف يقوم ببيع السيارة عند سفره وسيشتري أخرى أكبر عند عودتهما في الإجازة ، ولم تفوت رنا الفرصة فهتفت قائلة : إذا كنت ستبيع السيارة فعلاً فنحن سنشتريها أنا وأكرم ، فوجئت بكلمات رنا ، فرغم أننا كنا قد خططنا لشراء سيارة صغيرة لنا إلا أنني لم أتصور أن يكون الموضوع بهذه السرعة ، وقد وجدت عصام يقول :ضاحكاً على كل حال أنا كنت سأترك المفتاح لأكرم كي يبيعها لي بعد سفري ، أرى أنك حللت الموضوع يا أستاذة رنا ، أما ليلى فقد علقت موافقة ثم مالت على رنا وهي تهمس : أرجو ألا يكون بقلبك شيء جهتي ، أنا أعرف أنني كنت ثقيلة وأتعامل معك بجفاء ، لكني لم أكن أعرفك جيداً ، ولم ترد رنا سوى بابتسامة وهي تربت على يد ليلى وتميل عليها لتقبل خدها .
حين انتهينا من العشاء قام عصام وزوجته ليلى بتوصلينا وقد طلبت منه أن يتركنا قرب الكورنيش ، كنت بحاجة إلى أن أجلس قليلاً إلى البحر واستمتع بالصفاء الذي تحدثه نسماته وصوت موجه ، جلسنا صامتين أنا ورنا ونحن نستمتع بهذا الهدوء الرائع ، ثم بنفس اللحظة وجدتنا نهمس بكلمة واحدة : أحبك ، ضحكنا نحن الاثنين وقمنا وأيدينا متشابكة في طريق عودة كل منا إلى بيته ، لم أشأ أن أعكر صفو تلك الليلة بالنقاش حول قرار رنا في موضوع السيارة الذي أثارته دون أن تناقشني فيه ، وهي قد أحست بأنني ربما أكون قد تضايقت فلم تأت على ذكر الموضوع ، لكنها حين أتت في الصباح إلى مكتبي فرحة بقبول استقالتها واقترابها من التعيين لدينا في الصحيفة بعدما أخبروها بأن أوراقها قد استوفت ولم يتبق غير توقيع رئيس مجلس إدارة الصحيفة ، أحاطتني بذراعيها وهي تخبرني بهذه الأخبار ، ثم همست : أود أن أعتذر منك عما حدث مني أمس بشأن السيارة ، أقسم لك أنني ما قصدت ، لكني وجدتني أنطق دون تفكير ، أرجوك سامحني .
كانت كلماتها كفيلة بأن تزيل أي ضيق بصدري فاقتربت منها وقبلتها فوق جبينها ، فاحمر وجهها خجلاً وهي تبتعد متظاهرة بالغضب رغم أن ابتسامة ثغرها فضحت سعادتها .
بعد عدة أيام كان قرار تعيين رنا بالصحيفة قد ظهر للنور ، وأصبحت رسمياً موظفة لدينا وقد فرح الجميع بقدومها إلى العمل معنا واعتبروها مكسباً جديداً للجريدة ، أما أنا فقد شعرت أن الأوان قد آن لنجتمع ولا داعي للتأخير أكثر من هذا ، وحين فاتحت رنا وجدتها هي الأخرى ترى أن الوقت مناسب خاصة وأنها انتهت من إعداد شقتنا ، قررنا على الفور البدْء في إجراءات التجهيز لحفل الزفاف ، ولم يمض أسبوع إلا وكنا قد طبعنا الدعوات وقمنا بحجز قاعة في نادي الصحافيين وقد أشرفت رنا على وضع كل اللمسات في أركان القاعة ، وقد طلبت مني ألا أصطحبها وهي تشتري ثوب الزفاف ، حيث أخبرتني أنها تريده أن يكون مفاجأة تسرني ، وقد أرسلت دعوات إلى صلاح وسناء وليلى ، أما عصام فقد كان سفره تحدد قبل الحفل بيوم واحد .
كان غريباً أن يهاتفني صلاح ويطلب أن يقابلني لأمر هام ، واعدته في كافتريا قريبة من الكورنيش ، حين وصل وجدته مكفهر الوجه مهموماً ، تركته يجلس بعد أن صافحني وطلبت قهوة لكلينا ، ظل صامتاً للحظات قبل أن ينفجر قائلاً : لقد طفح الكيل يا أكرم ، ما عدت أطيق ، صرت لا أدري ماذا تريد سناء بالضبط ، ولا أدري لمَ وافقت على الارتباط بي طالما هي لم تكن مقتنعة ، كنت أنظر إلى صلاح وهو ثائر ويتحدث بعصبية وأفكر في أن هذه هي النهاية التي تخيلتها يوم علمي بهذا الارتباط ، فهو لم يكن له أسس يقوم عليها سوى رغبة سناء في استعادة كرامتها ، ومحاولة استثارة غيرة رشدي ، أما صلاح فقد كانت سناء أختاً له طوال سنين ولم يفكر يوماً فيها خارج هذا الإطار ، فكيف تتحول مشاعره بين ليلة وضحاها هكذا ، صمت صلاح وهو ينظر إليّ ويستحثني على الكلام ، اعتدلت في جلستي وقلت له : لماذا ؟ لم يفهم صلاح ما أرمي إليه ، فقلت له : لماذا بعد كل تلك السنين والعشرة والصداقة أقدمت على تلك الخطوة ؟ أكنت تحبها يا صلاح ؟ صمت صلاح قليلاً وبدا أنه تفاجأ من حديثي ، لكنه أشاح بوجهه بعيداً ولمحت في عينيه الدموع ، ثم قال والعبرات تكاد تخنقه ، نعم أحببتها حتى قبل أن يفكر رشدي فيها أحببتها بكل حواسي ، وتمنيت أن أتزوجها ، لكن كما تعرف لم تكن ظروفي أو ظروف أهلي تسمح ، وقد وجدت تقارباً بين سناء ورشدي سرعان ما انقلب إلى قصة حب كنا جميعاً شاهدين على فصولها ، أقنعت نفسي بأن هذا قدرنا ، وأغلقت قلبي على حبه ، أتدري لمَ لم أتزوج طوال تلك السنين ؟ لأن سناء كانت المرأة الوحيدة التي أحببت ، ولم أستطع أن أفتح قلبي يوماً لأخرى ، وقد كنت مقتنعاً أنني سأظلم أية امرأة أخرى بالزواج لأن سناء كانت ولا زالت الحب الوحيد الذي عانق قلبي ، صمت صلاح وقد انسابت على وجنتيه دموعاً ترك لها العنان بعد أن حاول حبسها سنيناً ، صمتُّ قليلاً ثم قلت له : وهل أطلعت سناء على تلك الحقيقة ؟ هز رأسه نافياً ، قلت له : ولمَ ؟ همس قائلاً : لم أشأ أن أظهر أنني ذاك الشخص الذي قدم التضحيات ، كنت أريد قلبها لا عطفها ، كنت أستمع إلى صلاح وكأني أعرفه لأول مرة ، الرجل يملك قلباً كبيراً ومشاعر ، كنا لا ننتبه إليها ونحن نراه دوماً مازحاً ساخراً ، اليوم أرى أمامي رجلاً راقياً بمشاعره سامياً بأحاسيسه ، كنت أعلم أن سناء لا تشعر بحب صلاح ولن تشعر فهي لم تحب في حياتها رجلاً سوى رشدي وقد أخطأت باتخاذ صلاح خطيباً لمجرد أنها تريد الانتقام من رشدي ، ولم تفكر في مشاعر هذا الرجل الذي جلس أمامي وقلبه يكاد ينفطر ، حينها فقط أدركت تلك النظرة التي رأيتها في عين صلاح حين أخبرته بأن رشدي لن يعود إلى سناء وأنه قرر نهائياً الابتعاد وبدأ حياته من جديد ، لكني كنت في حيرة من أمري كيف سأخبره أن سناء لم ولن تعطيه قلبها وأن مشاعرها لا زالت متعلقة برشدي ، كنت أشفق عليه وعلى مشاعره ، لكنني أيضاً لم أكن أريد أن يتمادى ويزداد تعلقاً بها دون فائدة ، لذا وبعد صمت قلت له : لنكن منطقين يا صلاح أنت تحب سناء وهذا الحب رغم أنه بقلبك منذ سنين إلا أنه بالنسبة إلى سناء وليد هذه الأيام ، وأية قصة حب معرضة للفشل ، ألست معي في هذا ؟ إذن فأنا أرى أن تتحدث مع سناء وتعرف إن كانت تود استكمال مشوارها معك أم أنها تفضل أن تظلا أصدقاء ، وحينها فقط يمكنك البدء من جديد ، ربما تشعر أنك أضعت من عمرك الكثير في انتظار حبك هذا ، لكن في النهاية أرى أنك ستجد طريقك إما مع سناء وإما بدونها ، المهم أن تتخذ قراراً .
كنت أود أن أرحل بعيداً بعد زواجي من رنا ، لكن ظروف العمل منعتني ، وقد قررنا أن نمضي شعر العسل في بيتنا ، لأكون قريباً من مكتب الصحيفة وأتابع الإشراف عليها ولو من البيت ، وقد أتى حفل زفافنا أروع مما توقعت بكثير ، فقد أتت رنا بثوب عرس أبيض مشوب باللون البنفسجي لوني المفضل ومطرزاً تطريزاً رقيقاً وقد كان ثوباً للمحجبات ، ووضعت على رأسها تاجاً فبدت كأميرة من أميرات الحكايا الرائعة ، كنت مبهوراً بجمالها وأناقتها ، وكنت أشعر وكأني أراها للمرة الأولى ، مرت الليلة على أحسن ما يكون وأصرت رنا على ألا نذهب إلى مكان بعد انتهاء الزفاف ، بل إلى عشنا فوراً ، وكما كانت تتمني قمت بحملها بين ذراعيّ إلى غرفتنا وقبلت جبينها وقد طلبت مني أن نصلي ركعتين لله شكراً ، وحين انتهينا وجدتها تناولني كوباً من الحليب تبسمت وأنا أمسك بالكوب وأقربه من شفتيها فارتشفت رشفة وتناولت ما تبقى ، نظرت إليها بحب فأطرقت إلي الأرض وهي تتجه صوب غرفتنا .
قبل أن يمر أسبوعان اتصلت بنا ليلى لتخبرنا بأنها استلمت تأشيرة سفرها لزوجها عصام وكان صوتها يتراقص فرحاً ، ذهبنا لايصالها إلى المطار وقد التقينا بسناء هناك كانت تبدو حزينة ولم يكن صلاح بصحبتها ، ودعنا ليلى ، ثم قمنا بتوصيل سناء في طريقنا بعدما استملنا مفاتيح السيارة من ليلى ، لكنها ظلت طوال الطريق صامتة ، وقد احترمت صمتها أنا ورنا وإن كنا قد شعرنا أن ثمة أمر قد حدث أو أنه في طريقه إلى الحدوث.
مرت أيامنا أنا ورنا سعيدان ولم نشعر إلا وقد مضت الأسابيع الثلاثة مدة إجازتنا ، وقد علمت بعودة رشدي ونادية ، والغريب أنهما لم يتصلا بعد وصولهما ، لكن ما كان يقلقني هو انقطاع أخبار صلاح وسناء وعدم اتصالهما طوال مدة شهر العسل التي أمضيناها أنا ورنا ما بين البيت والتنزه ، لذا فقد قمت بالاتصال بصلاح لأطمئن عليه ، وأدعوه كي يزورنا هو وسناء ، فأجاب باقتضاب لقد انفصلنا أنا وسناء وفسخنا خطبتنا، لم أستطع الرد أو سؤاله لكنني حاولت تغيير وجهة الحديث فقلت له : لقد علمت بعودة رشدي ونادية فقد اتصلت نادية من هاتفها لكن لم تنتبه رنا فأرسلت نادية رسالة على هاتفها ، لكن منذ وصول الرسالة وهاتف نادية مغلق وأيضاً هاتف رشدي ، ثم ضحكت وأنا أكمل حديثي : يبدو أنهما لم يكتفيا بشهر العسل الذي أمضياه فقررا أن يبدآه هنا من جديد ، رد صلاح ضاحكاً : ربما ، ثم سألني عن رنا وكيف هي حياتنا ، أجبته : إننا بخير وفي أحسن حال ، ثم كررت دعوتي له فشكرني وهو يقول : عن قريب فأنا أريد أن أتحدث معك ، انتهت المكالمة وأنا أشعر بالحزن لأجل صلاح الذي رغم ضحكته كان الحزن يخالط نبرة صوته ، حاولت الاتصال بسناء لكنها لم ترد .
مر شهر على عودتنا إلى العمل وقد عرفت خلال تلك الفترة عن طريق رنا أن نادية ورشدي قد دبت بينهما الخلافات بعد مرور أسبوع واحد على زواجهما ، وأن رشدي تشاجر معها بعد عودتهما وترك البيت ، وأنه أغلق تليفونه ولا يريد أن يلتقي بأحد أو يتحدث مع أحد ، وقد حاولت الاتصال به في عمله فأخبروني أنه قد سافر في مهمة عمل ، كان غريباً ما يحدث ، لم أعهد رشدي هكذا يوماً وكأنه كان يهرب من شيء ، استأذنتني رنا في دعوة نادية على الغداء في عطلة نهاية الأسبوع ولم أمانع .
كانت وتيرة العمل بالجريدة تزداد ، وكنت أشعر بأن رنا مرهقة بين البيت وعملها بالصحيفة ، فكنت كثيراً ما أهب لمساعدتها وهي تطلب مني أن أستريح لكنني كنت أساعدها حباً وتزداد سعادتي وأنا بجوارها ، وكانت دوماً نظرة الحب والرضا التي بعينيها أجمل مكافأة لي ، وقد أدركنا أن سناء قررت مقاطعتنا فلم تعد ترد على مكالمتنا ، أما صلاح فقد اتصل ليخبرني أنه حصل على عقد عمل بالخارج وأنه مسافر خلال أيام ووعدني بأنه سيمر لتوديعنا قبل سفره ، وفعلاً وجدت صلاح يمر على مكتب الجريدة ليخبرني بأنه سيسافر خلال ساعات ، ودعته أنا ورنا ونحن نتمنى له التوفيق في رحلته الجديدة ، في نفس اليوم لاحظت الإجهاد الشديد على رنا ، طلبت منها أن تذهب فلى البيت لكنها رفضت وأصرت أن نعود سوياً ، وافقتها بعدما أخبرتني بأنها ستأخذ إجازة في الغد خاصة وأن نادية مدعوة عندنا على الغداء .
كانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى العمل وحدي بدون رنا ، وكان شعوراً غريباً ، لم تمض ساعتان حتى شعرت بالشوق إلى رنا ، هاتفتها فلم ترد حاولت مرة ثانية ردت بصعوبة وهمست بصوت واهن : أكرم أرجوك احضر بسرعة أنا أشعر بتعب شديد ، أغلقت سماعة الهاتف بسرعة ، وأسرعت لاصطحب أحد الأطباء في طريقي إلى البيت ، حين وصلنا وجدت رنا شاحبة وقد أخبرتني بأنها شعرت بإعياء ودوار ، بدأ الطييب في معاينة رنا وفي نفس الوقت دق جرس هاتف رنا ، قمت بالرد وفوجئت بنادية تصرخ في هستيريا وهي تقول : لقد طلقني رشدي يا رنا، كان لوقع كلماتها الصدمة على أذناي ، ولم أكن أعرف بماذا أرد ولا كيف سأخبر رنا وهي على تلك الحالة ، فقلت بهدوء : سأبلغ رنا أن تتصل بك بعد أن يخرج الطبيب ثم أغلقت الهاتف ، نظرت إليَّ رنا متسائلة فابتسمت وأنا أشير إليها أن تهدأ ، حين انتهى الطبيب من فحص رنا ابتسم وهو يقول : مبروك ، زوجتك حامل ، وجدتني أتناسى كل ما حولي وأعدو جهة رنا ، جلست بجوارها ثم قبلت رأسها واحتضنتها بحنان ، حين غادرنا الطبيب عدت إلى رنا وأنا أكاد أطير فرحاً ، نظرت إليَّ وابتسامة رقيقة تعانق شفتيها ، ثم قامت تستند على ذراعي وهي تهمس : أحبك ، فابتسمت وانا أكمل : ولن أكتفي ، توجهنا إلى النافذة ، كانت الشمس ساطعة بحنو والسماء صافية والأفق ممتد أمامنا بلا نهاية.



تمت












الكاتب في سطور:
كاتب وأديب مصري من مواليد الإسكندرية
يكتب بالعديد من المنتديات على شبكة الإنترنت
ينشر له بالصحف المصرية والعربية
صحيفة الجمهورية المصرية ، صحيفة شباب مصر ، صحيفة الحياة اللندنية ، صحيفة الرياض السعودية ، صحيفة عكاظ السعودية ، صحيفة الشرق القطرية ، صحيفة الراية القطرية .
صدر له :
ضحكات دامعة مجموعة قصصية
القطار والثوب الأزرق مجموعة قصصية
السماء تلامس البحر مجموعة قصصية
قشطة مجموعة قصصية
فرار أنثى نصوص شعرية
ولع اللمبة الحمرا مجموعة مقالات